إسماعيل ناشف من مواليد 1967 في مدينة الطيبة بفلسطين المحتلّة، أستاذ مشارك في برنامج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في معهد الدوحة للدراسات العليا، ناقد أدبي وقيّم معارض، باحث مُهتم بدراسة المادة واللغة والأيديولوجيا والتشكيل الأدبي والفنّي الاستعماري عامةً، والعربي-الإسلامي والفلسطيني خصوصًا. صدر له عشرات الدراسات والكُتب، آخرها: «رُكام: في مقاربة النكبة تعبيريًا» (2019)، «اللغة العربية في النظام الصهيوني: قصة قناع استعماري» (2018)، «طفولة حزيران: دار الفتى العربي وأدب المأساة» (2016)، «صور موت الفلسطيني» (2015).
• بعد مرور 71 عامًا على نكبة عام 1948، الّتي شكّلت الوجود الاجتماعي الفلسطيني، هل تغيّرت النّكبة كفكرة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية؟
بالتّأكيد تغيّرت علاقتنا مع النكبة، وأخذت أشكالًا مُختلفة، منذ الحدث التاريخيّ نفسه وحتّى الآن، والمداخلة الأساسية الّتي أدّعيها، هو أنّ النكبة، إلى حين مأسسة الحركة الوطنية الفلسطينية، أي إلى أواسط الستينات، كانت تُشكِّل صدمةً للناس، حيث لم يكن لديهم الأدوات الّتي تُمكّنهم من التعامل معها، وذلك على المستوى الجمعيّ، فالجماعة الفلسطينية بين عام 1948، وتقريبًا إلى عام 1964 (تاريخ إنشاء منظمة التحرير)، لم يكُن هناك قالب جماعيّ، أفرزته حالة النكبة. فمثلًا، حكومة عموم فلسطين، كانت إرثًا للعمل الجماعي قبل العام 1948. وبدأنا نُلاحظ بداية تشكُّل أُطر جماعية، تُعيد صياغة الذاكرة الجماعية، مع نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في أواسط الستينيات، والّتي تجلّت بمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، والّتي كانت تسعى لأن تشتبك مُباشرةً مع نتائج الحدث النّكبوي. نأخذ على سبيل المثال تجربة إسماعيل شموط في الفن، الّذي عاش تجربة النكبة باللّد، كانت لوحته الأولى الّتي تناولتْ حدث النكبة (إما عام 1961 أو 1962)، تُصوّر اللحظة التي تَلتْ النكبة، أي لا ترى حدث النكبة نفسه في اللوحة، وإنما تُبصر الحدث الّذي يليها؛ البيوت المهدمة، اللاجئين على الطريق، لكنك لا ترى الحدثَ نفسه؛ حدث القتل، حدث الهدم.
وقد حاولتْ منظمة التحرير الفلسطينية، والحركة الوطنية الفلسطينية، مواجهة تبعات النكبة مباشرةً، واستمرّت هذه المحاولات منذ أواسط الستينات وحتّى نهاية الثمانينيات، لأنّ النكبة أدّت إلى تفكيك المجتمع وهدمه، وهم أرادوا، عن طريق حق العودة والكفاح المسلح، وكل هذه الثوابت الوطنية، أن يواجهوا الحدث. إذًا، استمرت هذه المحاولات نحو عقدين أو عقدين ونصف من الزمن؛ محاولات مواجهة النكبة، ومواجهة الذاكرة الجمعية الوطنية، الّتي شكلّتها النكبة. ومع بداية التسعينات، فشلتْ الحركة الوطنية الفلسطينية؛ فشلتْ بمعاييرها هي كحركة وطنية، في مسؤوليتها التاريخية بمواجهة النكبة كحدث، وما لها من تبعات، فشلتْ في تحقيق التحرير، وفي تحقيق عودة اللاجئين، وفي جلب حقّ تقرير المصير، فشلت في جميع هذه الثوابت، وقد كان الفشل عموديًّا، فلم يكُن فشلًا في صراع محدد، بل فشلًا شاملًا، وقد تجلّى ذلك في أوسلو. وفي هذه اللحظة بالتحديد، لحظة أوسلو، صار عندنا ما يُمكن أن يوصف على أنّه التعامل مع حدث النكبة بشكل مُضاعف؛ يعني أنّ حدث النكبة كان حدثًا تامًا شاملًا، ولمّا تحقّق الفشل في مواجهة هذا الفقدان، صار لدينا فقدان من الدرجة الثانية، فتضاعفَ الفقدان، والمزعة صارتْ في العمق، أي لم يعد هُناك استطاعة للتواصل مع الفقدان الأول، حيث باتَ لدينا في الذاكرة الجماعية فشلًا مُتكررًا في التعامل مع الفقدان، وكأنّ أصبح هناك فقدان آخر، فقدان مضاعف.
• هذا ما تذكرهُ في كتابك «معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة»، بأنّ الجماعة الفلسطينية -لأسباب عديدة- لم تستطع الحفاظ على فقدانها الأول؛ نكبة 1948، الّتي تُشكّل هويتها، كون الفلسطينيون كانوا يُعرّفون كجماعة وطنية فقدتْ وطنها، لكنّهم فيما بعد، أصبحوا يعيشون عبر فقدان الفقدان الأول؟
بالضبط، فقدانها الثاني وفشلها كجماعة، في أن ترتقي لأهمية الحدث النكبوي تاريخيًا، وباتَ هناك نوعٌ من التسطيح، فحدث النكبة حدثٌ شمولي، فإمّا أن ترتقي لمستوى الحدث، وإمّا أن تفشل في أن ترتقي لمستواه، وهكذا. وقام ذلك بتغيير كل الثقافة الفلسطينية، فقد تحوّلت جذريًّا.. وعند هذه اللحظة، كان صُعود العمليات الاستشهادية، وهي شيءٌ مُطلق، أي أنّ الاستشهاد حالةٌ مُطلقة. فاليوم، ما نعيشه من فشل أوسلو، والانقسام، إلخ، هو إعادة للفشل من الدرجة الثانية، لذلك، ما نجدهُ مثلًا في مسيرات العودة، هو فقدان مُضاعف، يُكرّس لمفهوم العودة الفعلية، أي انتفاء وجود أيّ حل آخر، إلّا أن تعود، وتكون العودة دون وسيط سياسي، حيث أنّ الوسيط السياسي قد فَشِل، فالحزب أو التنظيم أو الحركات، بما فيها الحركات الإسلامية، فشلوا في تحقيق مسيرات عودة.
• تتعامل مع نكبة عام 1948 بوصفها الحدث الشمولي؛ أي شاملًا لكل مناحي الحياة، والمؤسّس لكل ما هو فلسطيني آني، وأنّ كل ما يحدث بحقِّ الفلسطينيين هو تكرار لسيناريو عام 1948، وذلك يتّضح بشكل رئيس في كتابك «صور موت الفلسطيني»، كما في أعمالك الأخرى.. بالدراسة الفلسفية لحركة التاريخ النّكبوي الّتي لم تنتهِ بعد، هل الفلسطينيون مُجرّد وسائط بالتعبير الهيغلي، يُعيد التاريخ دورانه خلالهم؟
مفهوم هيغل للتاريخ هو مفهوم غائي؛ يعني أنّ هُناك هدف، والتاريخ يمشي تجاهه، وقد جرى نقد هذا المفهوم للتاريخ. وإجابةً على السؤال: لا، الفلسطينيون ليسوا وسطاء، وإن اعتبرناهم كذلك، فإنّنا نقوم بإخراجهم من التاريخ، أي نُحوّلهم إلى أدوات أو ما شابه ذلك. صحيحٌ أنّ للتاريخ جانب بنيويّ، يتعلّق بعلاقات القوى، ولكن هناك هامش كبير كذلك، تستطيع من خلاله تغيير التاريخ، فأنا أؤمن أنّ الفعل الجماعي يستطيعُ وبسهولة، تغيير التاريخ. لكن، علينا ألّا ننسى أنّ البنية الاستعمارية في فلسطين، لا تخصُّ فلسطين وحدها بمعزل عن العالم؛ وإنّما بنية استعمارية جزئية تنتمي إلى منظومة أكبر، ولذلك نجد أن الفلسطيني هو من يدفع الثمن. في كلِ حدثٍ مُهم في العالم العربي، مثلًا، جاءت الانتفاضة الأولى وحقّقت إنجازات للفلسطينيين، ثم تَلتها حرب الخليج الّتي دفع ثمنها الفلسطينيون كذلك، وكان الثمن على شكل أوسلو، فلمّا اجتاح صدّام الكويت، اتخذت القيادة الفلسطينية قرارًا خاطئًا، ودفعنا ثمنه بفقدنا للدعم المادّي الأساسي، وخروج قُرابة 400-500 ألف فلسطيني من الكويت. الشيء نفسه تكرّر في الانتفاضة الثانية، الّتي أتت بعدها أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، والّتي قلبت العالم رأسًا على عقب، وجُلِب دايتون على خلفية الحرب ضد الإرهاب، ودفعنا الثمن مرّة أخرى، وهكذا.
ويتمثّل السؤال الآن، في كيفية الخروج من هذه العلاقات؟ ما أقوله هو الآتي: الفلسطينيون ليسوا وسطاء، ليس ذلك أنّ التاريخ غائي بالمعنى الهيغلي، أقول أنّ الاستعمار دائمًا يُبقيك حقبةً إلى الوراء، كأن تذهب إلى الحج بينما يرجع الآخرون، فالآليات/ السقف الزجاجي الاستعماري، يطمسُك دائمًا إلى أسفل، ويعودُ بك إلى الوراء. والحركات الوطنية بالمفهوم الكلاسيكي قد انتهت، والدولة القومية، بالمفهوم الّذي كنّا نعرفهُ، أنهتْ وظيفتها التاريخية، وأصبح لدينا مفاهيم أخرى. لكن الفلسطينيون ما زالوا تحت الاستعمار، فهم يسعون خلف حق تقرير المصير، ويريدون إنهاء الاستعمار وبناء دولة، لكن هذا الشيء، يبدو وكأنه شيء قديم، وكأن وقته قد انتهى، ويلعبُ الصهاينة والقوى المختلفة على ذلك، وتجدُ ذلك بشكل مُنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن الدنيا تتقدم، بينما ما زال الفلسطيني عالقٌ في مرحلة قديمة. وهذا يُعدُّ جزءًا من آليات سيطرة الاحتلال.
• هل تؤدي الحركة الوطنيّة الفلسطينية الوظيفة التاريخية المنوطة بها؟ وكيف يُمكن للجماعة الفلسطينية أن تُفرز أشكالًا جديدةً للتعبير عن ذاتها؟
الحركة الوطنية الفلسطينية، والحركات الإسلامية، بالطريقة الّتي نألَفها، لم يعودوا قادرين على حمل المسؤولية، أي أنّ وظيفتهم التاريخية قد انتهت. وهذا لا يعني أنّهم غير مهمين، على العكس، فقد كانوا كذلك في مراحل معينة، على الأقل أطياف منهم كانت مهمة، ولكن السؤال اليوم هو كيف للجماعة الفلسطينية أن تُفرز أشكالًا جديدةً من التعبير عن ذاتها، أي أن تأخذ الإرث الوطني الإسلامي، وتذهب تجاه مفاهيم التحرُّر من الاستعمار، لكن بأدوات مختلفة، وهذا يعني أنّ هناك حاجة للتفكير في نوعية قياداتها، خُذ مثلًا الثورات العربية؛ فالثورات قديمًا كان يقودها طلائعيين، أي قيادة وخلفها تنظيمات وأحزاب تقود الثورة، أمّا اليوم فتقوم الثورة بشكل مفتوح مُتعدّد البؤر، وعندما يندلعُ حراك جماهيري، تكون فئات الشباب الّتي لا تتبعُ نقطة محورية، فيتطلع الخصم إليها، ويطمحُ للتخلص منها. الشيء نفسه بالنسبة للفلسطينيين، فأيّ حراك جماعي اليوم، ينطوي على الهياكل التقليدية للحركة -الأحزاب أو التنظيمات أو المظاهرات- وكل هذه الأدوات التقليدية، يُمكن اعتبارها عدة عمل قديمة يجب تجديدها، أمّا طبيعة العدّة الجديدة، فهذا التّحدي ليس مسؤولية السياسي، إنّما مسؤولية المثقف، فالمثقف هو من يروي السِير الجماعية، وليس السياسي، وهو من يفتح هوّة الأفق، حيث أنّ قراءته للتاريخ وللمجتمع أعمق من قراءة السياسي.
برأيي أنّه في هذه المرحلة، ليس من قبيل الصدفة، أن يكون كل من الفيلم أو القصة أو الرواية أو البحث الأكاديمي، أهم من المنشور السياسي، لأنّ التناقضات تُحرِّك الناس، وتُنتِج سردية جديدة. ولا يعني ذلك أنّ عمل السياسيين غير مهم، لكن من المؤكد أنّنا في مرحلة انتقالية، ويتمحور السؤال والتحدّي، حول ما إذا كان مجموع المُثقفّين والمُثقفّات من الفلسطينيين، سيرتقون لمسؤوليتهم التاريخية. برأيي، ليس هناك أيّ خيار ثان. ويُمكن القول أنّ أحد المداخل هو أن تُعاد قراءة -أو أن تُجرى قراءة تنقيحية- للإرث الوطني الإسلامي الفلسطيني، وللعالم العربي.
وقد تستغرب في بعض المرّات -بأثر رجعي طبعًا- فأنا مثلًا، أنتمي إلى جيلٍ كَبرَ بين التنظيمات والأحزاب، ولمّا كُنّا بينهم، اعتقدنا أنّها غير قابلة للهدم، كأنّها عَبر تاريخية، أمّا اليوم -وبأثر رجعي- يتبيّن كم كانت هشّة، وتتساءل أينّ كل الهياكل والمؤسسات الّتي كانت قائمة. صحيحٌ أنّ أمامك عدو استعماري لديه سقف زجاجي، ولديه نوع من الاستراتيجية العسكرية الاستعمارية، ويستطيع أن يُنهيك، أي أنّ هناك إنهاء شامل، لكن يبقى الاستغراب تجاه مدى الهشاشة هذه، الّتي يفسّرها البعضُ على أساس البُنية الاجتماعية، أو الهوية، أو من خلال نظرية التحديث، وذلك أمر سيء جدًا، كأن تقولَ أنّ الفلسطينيين ليسوا مُحدثين بما فيه كفاية لكي يُحرِّروا، وكذلك نظريات جلد الذات الأخرى. نحن اليوم في مكان آخر تمامًا، خُذ مثلًا مفهوم النقد، صحيح اليوم أنّ هناك إنتاج أدبي وروائي، لكن ليس هناك نقد، فالنقد صار شيء هَرم، بالتالي، أحد الأشياء الّتي ينبغي التفكير فيها، هو كيفية تطوير أنواع جديدة من النقد، وتتساءَل لِمَ النقد؟ لأنّ النقد يُمثّل قُدرتك على الخروج من ذاتيتك، ورؤية نفسك من الخارج، بِنيّةِ الارتقاء، وفي السياق الفلسطيني اليوم، ليس هناك أيّ نقد جاد، لا في الأدب، ولا في الشعر، ولا في السياسة.
• تفهمُ المجتمع الفلسطيني، من خلال تفكيك وفهم العلاقة بين طرائق الموت المُختلفة، وما يُرافقها/ ينتج عنها من ولادات وإعادة إنتاج تشكيلات مختلفة من الوجود الفلسطيني كجماعة فاعلة تاريخيًا.. في سؤال الجماعة القومية، هل مجموع هذه الولادات لكل واحدة من جماعات المجتمع الفلسطيني الناتجة عن النكبة: الشتات، والمناطق المحتلّة في عام 1948، والضفة الغربية، وقطاع غزّة، يُنتج لنا عائلة فلسطينية؟
المجتمعُ الفلسطيني عبارة عن فُسيفساء، لدينا حوالي ست أو سبع قطع كبيرة وواضحة، ولدينا قطع صغيرة، هناك تجربة غزّة، وتجربة الداخل، وتجربة الضّفة، وتجربة الشتات، وتجربة المهجر على أساس العمل، وتجربة الجماعات الفلسطينية المختلفة الّتي تجمّعت من دول عربية، لا على أساس اللُّجوء، وعلى أساس تاريخ الحركة الوطنية، وعلى أساس تاريخ هجرة العمل. والسؤال الّذي يبرُز: كيف نُجمّع كلّ هؤلاء؟
برأيي، تمثّلتْ أهم إنجازات جبرا إبراهيم جبرا في خلقِ المُخيّلة الجماعية الفلسطينية، فيما سمّاه «وطن من كلمات»، وكأنّ السردية الجماعية، صارتْ عبارة عن مجموعة مُدوّنة نصّية. وفي فترة الطباعة، أصبحَ تجميع الناس يتمّ عن طريق صحف، قصائد، كتب، إعلان مرئي، إعلان مسموع، بوسترات، وهذه ذاتها هي ما جمّعتْ الفلسطينيين. مثّلَ جبرا هذا التيّار عبر مقالاته في الستينيات والسبعينيات، وأتى بعده جيل آخر، نذكرُ منهم: محمود درويش وغسّان كنفاني، اللذان احتفيا بأنّنا «وطن من كلمات»، مثلًا تشعر في «عائد إلى حيفا»، أنّ كل الفلسطينيين يجلسون مع بعضهم في الرواية، تخيّل أن تكون مع كثيرين في الرمز أو في حقل المعاني الّتي خلقتهُ الرواية، أو أيّ قصيدة لدرويش.
لماذا إذًا أتحدّثُ عن الطِباعة؟ لأنّ لكل فترة زمنية تاريخية، ولكلِ تشكيلٍ اجتماعي-اقتصادي، أدواتٌ اجتماعية؛ فرأسمالية الطباعة -بالشكل الّذي نعرفه- قد ولّتْ، وبشكلٍ موازٍ لذلك، انتهت الدولة القومية، لا اختفاءً، إنّما بَقيَ إرثها، وينطبقُ ذلك على الحركة الوطنية. وعلى الرغم من انتهاء الفصلِ في وسائل التواصل، أصبح النّاس يتواصلون بشكلٍ أكبر، لكن بالمقابل زادت المحليّة، بمعنى أنّ كثافة التجربة المحلية صارت تطغى على الناس، أكثر من قبل، فمثلًا، كثافة تجربة فلسطينيي الداخل في حياتهم اليومية، صارتْ أكبر بسبب علاقتهم مع المُستعمِر، فهُم يتّصلون بمُجتمع غزّة والضّفة أكثر من قبل، إلّا أنّ حياتهم اليومية تقوم بابتلاعهم. وينطبق الأمر ذاته على الناس في غزّة، فهم يتّصلون مع فلسطينيي الداخل، لكن كثافة لحظة غزّة اليوم، تجعلهم يعيشون غزّيتهم أكثر. وهذا شيء مدعاة للاستغراب!
الشيء الآخر، أنّ المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريّة والأردن، خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة، لم تخرج منها طلقة واحدة، وكان ذلك جليًّا بعد غزو إسرائيل للبنان، والسؤال هنا: لماذا؟ هذه نقطة مفصلية، فأنت تسألُ نفسكَ ما هو الوضع في المخيّم أصلًا؟ وإنّ أسوأ وضع موجود في لبنان، وفي سوريّة خلال الأحداث السورية الأخيرة عندما هُدمَتْ المخيمات، وكذلك في الأردن الوضع صعبٌ جدًا، وبالتالي تكوّنت لدينا أشياء جديدة، ولذلك ليس صدفة أن يتّجه الناس نحو الجوانب التعبيرية. وبُعْد التعبير بالمعنى الثقافي، يعني أنّ ليس هناك شكل نمطي، أي ليس هناك سرديّة كبرى؛ السّردية الكُبرى كانت في العهد السابق، حيث احتاجت إلى أدوات؛ صحافة، مطبوعات، تلفزيون وطني، راديو، إلخ. وهذه الأدوات السابقة، والسردية الكبرى، انتهت.
ما يظهرُ أمامنا اليوم هو التحدّي: كيف نخلق سردية جامعة؟ والسّردية الجامعة لها عدّة أشكال، لكنّها لن تكون سردية كبرى، وإنّما تكون نوستالجيّا، بمعنى أنّ السّرديات جميعها تخلُص إلى الشيء نفسه. في الحقيقة، لسنا جميعنا الشيء نفسه، لكن المسألة لا تتنافى، أن نملكَ في الوقت نفسه شيء جامع وآخر مُختلف، فالحركة الوطنية سابقًا، لم تقدر أن تستوعب ماهيّة الاختلاف، والاختلاف لا يعني تواطؤ مع المحتل، بل أنا لا أُريد أن أكون نسخة باهتة عن أيّ نظام عربي استبدادي آخر، فنظام السُلطة في رام الله ليس نظامًا سياسيًا؛ فهو لا سياسي، ولا هو تنظيم. وبرأيي، التاريخ لم يعُد يتحمّل هكذا إشكال، يعني هناك شيء لا رجعة فيه، مثلًا الثورات العربية المهم فيها أنّها شكّلت حركة الزمان بطريقة لا رجعة فيها، فالحساسية لم تَعُد تقدر أن تعود إلى الوراء.
• ماذا عن طرائق إنتاج الموت الفلسطيني-الفلسطيني ماديًا ورمزيًا.. هل يُمكن أن يتمخّض عنها أي ولادات؟
السؤال الّذي يجب طرحهُ: كيف تُريد أن نفهمها؟ من المُمكن أن نفهمها كمرحلة انتقالية، بالمناسبة أنا صِدقًا أجدُ أنّه عندما يختصمُ طرفان على ذاتِ الشيء؛ السُلطة، لا أعود أجد فروقًا بينهم، فإذا كان لدينا قُطبي نزاع، يقومُ النزاع/ الصراع بينهم بإعادة تشكيلهم، فنُلاحظ مثلًا أنّ أدوات حماس وأدوات فتح، هي ذاتها. صحيحٌ أنّ لدينا حركة كانت في فترة معينة في حالة صعود، وهي حركة حماس، وكانت فتح في حالة شيخوخة، لكن، حماس مشكلتها الأساسية أنّها قبلت واقع التقسيمات، الناتجة عن العام 1948، فحماس قبلت أنّ غزّة هي غزّة، لأنّ هناك صراع على السلطة، ومن غير المهم شكل السلطة. ولا يتلاقى أن تكون حركة مقاومة، وتسعى في الوقت نفسه للسلطة، فأنت كحركة مقاومة، المهم بالنسبة لك ليس السلطة والسيادة بالمعنى الدولاتي، ففي اللحظة الّتي تصيرُ الدولة هي الهدف والرغبة، سيصير هناك تناقضات. الشيء نفسه ينطبقُ على فتح، الّتي لم تفهم أنّ دورها التاريخي قد انتهى، ففتح لا تُحييها إلا المادّة/ المال، هي الزيت الّذي يُحرِّك التنظيم، والشخص الهرم أبو مازن، الّذي ينتظر رصاصة الرحمة؛ لأنّه شخص كارثي ولن يصدر عنه إنجازات أخرى، هو حصان ميت. وبرأيي، حماس هي عارض لمرحلة انتقالية، وليست حل، فلن يصدر عنهم أي حلول، فتاريخيًا، الاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني كان موجودًا على الدوام؛ لديك حرب المخيمات، الصراع بين الحركات الإسلامية والعلمانية، الصراع بين اليسار واليمين.
• إذًا، هل نفهمُ أنّ الاقتتال هذا، هو الحال الطبيعية؟
ليستْ الحالة الطبيعية، لكنّك في صراع على الشرعية والسلطة، وبرأيي، الشّقين هم عارض لمرحلة انتقالية. وقد تأخذ المرحلة الانتقالية عشرين أو ثلاثين سنة، فلا أحد يستطيع أن يقيس المُدّة، وآمل أن يتحرّك الفلسطينيون بسرعة عالية، تتجاوز هذه الحالة. لديك طرف تحت الاحتلال، وهو بشكل منهجي، مُنظّم تحت نظام فاشي استعماري شمولي، والّذي يستطيعُ أن يضبط أيّ تحرُّك فلسطيني لغاية الآن، وهذه مشكلة، حتّى الصراع الفلسطيني الداخلي، بأشكاله المختلفة وإيقاعاته، كان له علاقة بالمحتل بنيويًا، وليس مؤامراتيًا.
• لو استخدمنا «صور الموت الفلسطيني» ككاميرا، كيف نُشاهد «مسيرات العودة الكبرى» في قطاع غزّة؟ هل تُعيد تشكيل حلبة الصّراع؛ أي ترد المعماريّة المادية للمنظومة الاستعمارية، وتتجاوز وسائل إعادة إنتاج الشأن الفلسطيني؟ وأين تقع في طرائق عمل الأجزاء المختلفة للجماعة الفلسطينية: الضّحية، الشهيد، والاستشهادي؟
رأيي في البداية، أنّ مسيرات العودة يجب أن تُعمّم، فحيث يقبعُ كل فلسطيني في العالم، يجب أن يقف، ويمشي عائدًا إلى فلسطين. هذا هو الحل، وليس هناك حلٌ آخر. تحدّثتْ الحركة الوطنية عن حق العودة، لكن بشكل رمزي، فلم تحكِ عن العودة الفعلية. برأيي، يجب أن نخوضُ نحنُ في ذلك، في العودة الفلسطينية للجميع، لكل الناس في الشتات، بنفس الطريقة الّتي تشردت وطُردت وتهجّرت ونُفيت من أراضيها. مسيرات العودة يُمكن تشبيهها بأنّها «بروفا» على هكذا سيناريو، إلى أن باتت تُستَغَل بشكل مُعيّن. الآن، ما يُميّز الحمض النوّوي الفلسطيني، أنّه على مستوى الأفراد -الجماعات الصغيرة- لدينا أصالة في المقاومة. على المستوى السياسي، دائمًا هناك فشل في استثمار هذه الفعالية، أمّا على مستوى الجماعات، فهناك أصالة. إنّ لدى النُخب السياسية خللٌ في الحمض النووي، فهم دائمًا يفشلون في استثمار الحدث للتحرير. وبرأيي، هذا ما يحصل مع مسيرات العودة، حيث يتم ضبط إيقاعها، وتُوظّف بشكل يُفشِل فعل التحرير الّذي خرجتْ من أجله. بنيويًّا، إنّ مفهوم مسيرات العودة يهدف إلى حلّ الاستعمار، وأؤكد أنّه يجب أن تكون هناك مسيرات عودة شاملة من كل الجهات.
• في كتابك الأخير «رُكام: في مقاربة النكبة تعبيريًا»، تُميّز بين خمس لحظات مُتشابكة في النطاق الزّمني للنكبة: السقوط المُدمر الشامل وموت التعبير، تشكّل الركام المادي ونهاية الحضور وفضاؤهما، الإدراك الجمعي الفلسطيني والعربي لهذه الأحداث، التعبير عن اللحظات الثلاث الأولى، ونهايةً بحدث تلقي التعبير عن الانشباك مع مختلف الأعمال الفنية والأدبية.. السؤال هنا: كيف يفتح حدث التعبير آفاقًا من الركام ذاته؟
إنّ اللحظة التاريخية الخاصّة بالحركة الوطنية انتهت، وأتت لحظة التعبير، الّتي هي إعادة بناء السردية بأشكال مختلفة. يجب الآن تفحُّص المادة التاريخية في السياق الفلسطيني، فنحنُ لدينا حدث النكبة، وما بقي منها رُكام، ولمّا أتتْ الجماعة الوطنية أو الجماعة الإسلامية، استعملت هذا الرُكام، ومنحته شكلًا.. لكن، لم تعُد صورة الشكل/المادة جيّدة اليوم، فما نُريده هو حدث تعبيري يُعطي سردية لهذا الرُكام. وبعكس ما نتعلمه ممن سبقونا، أنا لا أحاول أن أنفي الرُكام، فالحل هو أن أخوض فيه، وهذا أحدُ الأشياء الرئيسية الّتي خاض فيها الكثيرون من قبل، كحديث الشاعر سعدي يوسف عن ذلك حول العراق، لكن من المهم أن تُحكى في السياق الفلسطيني، أي التحديق الثابت في الفاجعة، في النكبة. وبالتالي أنت بحاجة إلى لحظة عُري، تنظرُ من خلالها للنكبة وللتاريخ مباشرة، وتحدّق فيهما، وألّا تخاف وتهرب. ولحظة التعبير تنتجُ عن هذا الشيء.
• غالبًا ما يتمُّ التعبير عن الفلسطيني -بعد حدث عام 1948- ونمذجتهُ رمزيًا في قالبي الضّحية-البطل، في الأعمال الإبداعية، سواءً في الكتابية/ الأدبية، أو الفنّية/ التشكيلية.. هل يُمكن الخروج من هذه الجدليّة؟ أو هل ثمّة حاجة لذلك؟
بالتأكيد هناك حاجة، الاثنين مشكلة؛ لأن الضحية والبطل، يخرجان من التاريخ، يصيران أيقونة وتُعلَّق على الحائط. المطلوب هو أن تعيش حياتك العادية كفاعل في التاريخ، تعيشها بكل تفاصيلها، دون أن تكون بطلًا أو ضحية، وأن تتفاعل في التاريخ، وتُشكّله، حسب ظروف معيشتك، وحسب الظروف التاريخية الّتي تعيش فيها.
• تعترضُ على القول بأنّ التعبيرات الفنّية/ الأدبية، تعملُ على تأسيس واقع بديل، أو تفتحُ كوّةً في جدار التغيير، وتقفُ إلى جانب مقولة أنّ أشكال التعبير الأدبية والفنية والموسيقية، ليست تعويضًا عن الواقع المُعاش، بل أنّها الواقع بحدِّ ذاته.. عند تناولك للتعبيرات الفلسطينية كناقد، هل تقرأها في سياق الأمومة النّكبوية لها، أم تفصلها وتتعامل معها بتجريدٍ فنّي؟
لم أفصلها في أيّ مرّة، ولا مرّة. تاريخيًا في الأدب مثلًا؛ أي في دراسة الأدب، وسوسيولوجيا الأدب، كان هناك من يقول أنّ المعضلة الأساسية، تتمثّل في أنّ الأدب قائم بذاته، لكن في الوقت نفسه، هو جزء من المجتمع، والتحدّي هو كيف تربط بين الأدب، وشروطه الأدبية، وتعطيهم حقهم، بألّا تختزلهم في البيئة الاجتماعية، لكن في نفس الوقت، تُبصر العمق الأدبي أو الفني، بحدّ ذاته كمنتوج اجتماعي. وطوال الوقت، يكون الشخص في حال تأرجح بين هذه وتلك. إنّ هذه الحركة هي ما تُولّد فضاءات، فأنت مع أن يكون الفن فنًّا، وليس شيء آخر، وكذلك الأدب والشعر، فعندما تقرأ شعرًا، فإنّك تقرأه فقط، وتعيش مع شاعريته. هذه اللحظة هي إحدى اللحظات المتعددة، وليست لحظة منفصلة. وبمقدورك أن تقرأها كشيء منفصل، ولكن برأيي، يُشترط ألّا تكون هذه القراءة هي القراءة الوحيدة، وليس من السهل، أن تضطر أحيانًا للنقد الشمولي.