«مهمّة رجل القلم هي وراثة النبوّة».
– يوهان فيخته (1762-1814).
شاعَ تداول مفهوم المُثقّف عربيًّا في الآونة الأخيرة، خاصةً بعد ثورات الربيع العربي، والّتي كان للمُثقّف دورًا هامًّا فيها، من حيث التحليل وقراءة الواقع وتقديم الحُلول، إضافةً إلى قدرته على الحشد والوصول للجماهير، وقد تنقّل مفهوم المُثقّف في الكُتُب العربية بحجمِ تنقُّل حُروف الجر بين المجرور والمُضاف، إلّا أنّه ثمّة شحٍّ طالَ العديدَ من الدراسات في تبيُّن دور المُثقّف، ناهيك عن مفهومه. وكمحاولةٍ لسدِّ هذه الفجوة، يأتي كتاب دور المُثقّف في التحوُّلات التاريخية الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2017)، الّذي يقع في عشرين فصلًا لمؤلّفين مُختلفين يستعرضون أنماط المُثقف، وبالتحديد المُثقّف العربي، وتأثُّره أو تأثيره في مُختلف أنواع التحوُّلات، وعلاقته بعواملٍ خارجية أُخرى، مثل المؤسّسة الدينية أو السلطة السياسية. نُحاول من خِلال استعراض هذا الكتاب التعرف على دور المُثقّف، خاصّة في ظلِ التغييرات الاجتماعية والسياسية والتحوُّلات التاريخية.
من هو المُثقّف؟
«إنّي أتّهم»، هي العبارة الّتي يعزي إليها مُختلف الباحثين ظهور مفهوم المُثقّف، والّتي دوَّت أثناء مُحاكمة درايفوس، فيقول علي الصالح مولى أنّها «العبارة الّتي منحت المُثقّفين شهادة ميلاد» (ص 253). من نافل القول إنّه ليس ثمّة تعريف مُتفق عليه لمفهوم المثقف، ولكن يُحدّد الباحثين بعضًا من خصائص المُثقّف. يتّسم المُثقّف بحسب خالد العسري بفضوليّته، وهو «مُقتنع بأنّ العالم لم يوجد لوصفه، بل للمُساهمة في هندسة بنائه» (ص 344). ويُعرّف حيدر سعيد المُثقّف على أنّه «القادر على تحويل الطابع المطلبي لجُزءٍ كبيرٍ من الحراك المدني، إلى قِيَمٍ سياسية، تتّجه إلى أداء الدولة والمؤسّسات السياسية وطبيعة النظام السياسي. وُهنا يأتي الدور التاريخي للمُثقّفين: فهم الأداة الّتي يُمكن أن تُحوِّل هذه المطلبية إلى مفهومٍ سياسي» (ص 468-469).
ويَرهنُ يوسف الشويري دراسة دور المُثقّف بدراسة الثقافة أوّلًا، والّتي عرّفها على أنّها «كل ما يهدف إلى (أو يُساهم في) تفسير ظاهرة اجتماعية، أو عزلها، أو تركيز الأنظار عليها ومنحها معنى مُحدّدًا ووضعها في سياق أوسع، حيث تغدو صراحةً أو ضمنًا جزءًا من بنية أو منظومة تُضفي عليها قيمتها وتُحدِّد لها أدوارها» (ص 106). ولا يعتبر الشويري المُثقّف مُنفصلًا عن واقعه، فالإنتاج الثقافي الّذي ينخرط فيه يُعرّضه إلى الثقافة العامة والخاصّة، حيث «لا مُثقّف من دون مجال ثقافي له حقله وتخصًّصه» (ص 121). ويتّفق الشويري في ذلك مع عبد الوهاب الأفندي، الّذي يرى أنّه من أجل أن يضطلع أيّ شخص بدورِ المُثقّف، عليه أن يكون عالمًا بقضايا عصره (ص 166)، فأطلَق على دور المُثقّف وصف «البطولي»، من حيث قدرته على تقديم الأمل والهويّة والدفع بالشعوب إلى عالم جديد، والّذي لا بدَّ له أن ينبثق من الواقع والتاريخ من ناحية، بالإضافة إلى تجاوز المحدودية في الرؤية من ناحية أُخرى (ص 181).
ويرى المولى أنّ المُثقّف لا يكون مُثقّفًا ما لم يُحصِّل نصيبًا من العلم، وإلّا لكان مُعظم الناس مُثقّفين (ص 256)، لكن النور حمد يجادل بأنّ امتلاك المعرفة يُمكن أن يجعل المرء مُثقّفًا، إلّا أنّ هذه المعرفة لا تُرادف امتلاك القدرة على الالتزام بالموقف الأخلاقي الصحيح، فحتّى المُثقّف لا يستطيع الالتزام بالموقف الأخلاقي ما لم يمتلك بعدًا روحانيًّا (ص 207). ومن جانبٍ آخر، يذكر إدريس الكنبوري أنّ كثيرين عرّفوا المُثقّف بالدمجِ بين الدور والسياق الاجتماعي أو التاريخي، أو كليهما. وبالتالي، لا تُطلق لفظة المُثقّف على الشخص الّذي يحمل المعرفة فقط، وإنّما يُصبح هذا الشخص مُثقّفًا إذا خرج بمعرفته إلى الفضاء العام واشتبك مع قضايا لا تصبُّ فقط ضمن معرفته (ص 426). وكذلك، يظن مولى أنّ الفعل الثقافي الّذي يقوم به المُثقّف لا يكون دافعه مسؤولية إدارية أو مهنية، وإنّما مسؤولية أخلاقية وهو يُدافع مُنخرطًا عن قضايا الناس، فكلمة المُثقّف هي وسيلة لفرضِ السلطة، وغايتها تحقيق العدالة والمواجهة والنضال في سبيل تحقيقها (ص 254-255).
يُحذّر عزمي بشارة من تفادي المُثقّف تلقّيه للمُحاسبة، وتنصُّله من المسؤولية، إذ يرى أنّ وظيفة المُثقّف تتجلّى في تحمُّله مسؤولية مواقفه في المجال العام (ص 38). ومع ذلك، يعتقد البعض أنّ دور المُثقف بات اليوم في عصر التقانية والمعلومات أهم من أيّ وقت آخر، فيشيرُ نديم منصوري إلى «المُثقّف الشبكي»، وهو الّذي يوجد في عصر الشبكة العنكبوتية، وهو بالتحديد «المُستخدم المُنتج في الشبكة، المؤثّر في أفرادها، والمُغني في مُحتواها»، والّذي بات وجوده أساسيًا في تفسير وتحليل وإيجاد حُلول وآليات تُنظّم وتُنسّق وجود الفرد الافتراضي، وتجعله مُحصّنًا من التأثيرات السلبية لاستخدامات الإنترنت والتقانية (ص 540-541).
دور المُثقّف
يتمثّل دور المُثقّف بحسب الشويري في «صوغ رؤية فكرية تتميّز بالتناسُق والتماسُك، وذلك عند المُباشَرة بوصفٍ تاريخي مُعيّن، وسرد حوادثه وتعليل مُنعطفاته»، حيث ينبغي عليه اتّخاذ دورٍ مركزي في الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن يستند إلى منهج فكري واضح، مُتجاوزًا التنظير المُجرّد والتقنية المُقرّرة، وذلك في غمرةِ شعورٍ بالحُرّية (ص 117-118). أمّا الكنبوري فيُعرّف وظيفة المُثقّف على أنّها مُراودة الأسئلة، والفاعلية والتأثير في التحوُّلات الكُبرى، بل ومنح المعنى للحركة التاريخية (ص 449).
إنّ الوظيفة النقدية الّتي يضطلع بها المُثقف، بحسب سعيد أقيور، هي ما تُمكّنه من المُساهمة بدورٍ بارزٍ ومؤثّرٍ في السياسة والمُجتمع. ولا يُرادف السياسي المُثقّف، وإنّما تُحدِّد مرجعية المُثقّف طبيعة الوظيفة الّتي يؤدّيها (ص 399). وعليه، فإنّ أقيور يرى أنّ وظيفة المُثقّف نقدية وتنويرية، وبينهما تداخُل وتشابُك (ص 402)، فيكون المُثقّف الّذي يجمع هاتين الوظيفتين مُثقّفًا عموميًّا (ص 405).
المُثقّف بين العرب والغرب
يرى إبراهيم القادري بوتشيش أنّ «كُلّ تحوُّل تاريخي انتقالي يسلتزم إعادة صوغ القول في مفهوم المُثقّف ودوره»، وامتحانًا لقيمة هذا الدور (ص 601-602). مثلًا، استدعت الانفجارات العربية عام 2011، بحسب حسن طارق، تساؤلاتٍ حول أدوار المُثقّفين، فتراوحت هذه التساؤلات بين من يُطالب بعودة المُثقّف إلى الساحات العمومية، ومن يرمي باستقالته عن قضايا المُجتمع وهمومهم (ص 67). وعزا البعض أزمة المُثقّف العربي إلى العالم العربي نفسه.
يكتب فريدريك معتوق حول حركة النهضة العربية، والّتي كان عمادها مُثقّفين عرب، والّذين على الرغم من رغبتهم الحقيقية في الانفتاح على العالم الخارجي، إلّا إنّهم لم يستطيعوا إحداث تغييرات جمّة، وذلك لإبقائهم على الموروث الذهني والثقافي القديم، بانتقاص أفعالٍ جديدة أو مُجدِّدة (ص 302-303). ومن ناحيةٍ أُخرى، نظّر البعض لهذه الأزمة بإيعازها إلى الأصل الغربي للمُثقّف. امحمد جبرون مثلّا، أطلق على ظهور المُثقّف وصف «الولادة المُغتربة»، من حيث أنّ نشأته لم تكن طبيعية أو شرعية، وإنّما جاءت نتيجة المُثاقفة المُتأخِّرة مع الغرب الحديث، وللتساؤل حول الحداثة المفقودة في العالم العربي. ومن جانبٍ آخر، يرى جبرون أنّ نقص منسوب الأصالة لدى المُثقّفين العرب كان أحد الأسباب الّتي أزّمت حال المُثقّف العربي، إلى جانب أزمة الهوية لديه، والّتي سببّتها الحداثة في العالمين الغربي والعربي على حدٍّ سواء (ص 379-380). إنّ هذه الأزمة – برأيّ جبرون – هي المسؤولة عن إخفاق المُثقّف في أداء دوره التنويري والإصلاحي (ص 393).
يعتقد سعيد أنّ السؤال عن دور المُثقّف يقوم على مُسلّمة بأنّ للمُثقّف دورًا، وهو «نتاج مخيال جماعي عام يحكُم المُثقّفين، يقتبس صوره من نسيج مفهومي مُتكامل بنته الثقافة الغربية» (ص 457). وينوط بالمُثقّف العربي اليوم، كما يعتقد المنجي السرباجي، مهمّة تأسيس مشروعية جديدة مُستندة إلى حُقوق الإنسان، والّتي يلحقها عملية تأصيل ثقافي. وباعتقاد السرباجي، تُعدُّ هذه المهمّة أكثر صعوبةً من المهمّة السابقة للمُثقّف العربي، وهي مُقاومة الجور السياسي. وإنّ الثورة على الرغم من أنّ المُثقّف لم يقُم بها، إلّا أنّها لن تنجح دون وجوده (ص 506). ويرى حمد أنّ الإشكالات الّتي جرت في السياق الغربي أثّرت سلبًا على المُثقّف في الفضاء العربي. ففي الفترة الّتي كان حَرياً بالمثقفية العربية أن تكون في يُنعها وشبابها وتذهبُ تجاه النهضة، انسحبت المثقفية الغربية الهرِمة ميكانيكيًّا على الفكر العربي. وبالتالي، فإنّ أحد التحدّيات الّتي تواجه المثقفية العربية هي قدرتها على «فرز السياقين العربي والغربي»، بحيث تأخذ أفضل ما يُمكنها من براديغم الحداثة، واستعادة الوعي المفقود والخصائص الحضارية، وذلك في وقت واحد (ص 201). ويؤيّد شمس الدين الكيلاني فكرةَ أنّ الفضاء العمومي الغربي ساهم في تقليص دور المُثقّف ووظيفته، حاصرًا إيّاها ضمن عوامل موضوعية سبّبتها الثورة التقانية (ص 476). ومن ناحيةٍ أُخرى، درس الكنبوري مأسّسة المُثقف، ويقول أنّ ما جرى من عملية تحويل لدور المُثقّف إلى خُبراء أو تقنيّين هو بحدّ وصفه «تَهريبًا» للمُثقّف عن مُجتمعه، وتحييده عن محاور الصراع من خِلال إدماجه في منطق المؤسّسة، بيد أنّ دور المُثقّف يجب أن يكون خارج هذه المؤسّسة ليكون رقيبًا عليها (ص 449).
استقلالية المُثقّف ودوره في السياسة
يعتقدُ عبد الوهاب الأفندي أنّ إحدى خصائص المُثقّف العام هي تحدّيه للنفوذ وأصحاب السلطة، ودفاعه أمامهم عن الحقّ والفضيلة، وهو ما يُمكّنه من الانتصار في هذا التحدّي (ص 152). ويعتبر جوهر الجموسي أن المُثقّفين هُم نُخبة اجتماعية، وأن دورهم يتمثّل في كونهم وسيلة اتّصال وتوطيد بين «مُستويات البنية الفوقية وباقي المُجتمع» (ص 567). وتكمنُ نزاهة المُثقف بحسب بنسالم حميش في كونه فاعلًا في الثقافة ومُنتجًا لها، وأن يتّخذ لنفسه موقعًا في المُجتمع المدني ناقدًا للسُلطة التشريعية الحُكم السياسي، وأن يرفض المواقف الجاهزة أو المُلتبسة من قِبَلِ رجالات السُلطة، بل وأنّ يُعلن صراحةً رفضه لها (ص 45). ويقول خالد العسري أنّ إحدى الشروط التي يجب توافرها لتمكُّن المُثقّف من مُمارسة وظيفته النقدية، هي أن يكون هذا المُثقّف مُستقلًّا، فخضوعه لسُلطة استبدادية ستجعلُ منه أداةً تستغلّها في الدعاية لها (ص 352). لكن أحمد مفلح يُلاحظ أنّه حتّى اليوم، يغيبُ وجود تعريف للتغيير المُجتمعي عند بعض المُثقّفين العرب، وهو بالتحديد ما عطّلهم عن أداء دورهم في التغيير وأضعف مقدرتهم على الاستشراف (ص 316-317).
المُثقّف في السياق الإسلامي
يُعرّف سعيد بنسعيد العلوي مُثقّفي عصر النهضة أنّهم أولئك الّذين سخّروا ما يمتلكون من أدواتٍ معرفية في سبيل فهم الواقع والتأثير فيه من أجل مُحاولة تغييره، عن طريقِ إبراز النقص في هذا الواقع، ثُمّ طرح حلول لهذا النقص (ص 130). ويُجادل العلوي أنّ نقاش المُثقّف العربي ذو المنحى الإسلامي تمحوَر في ثلاثة مسائل أساسية، وهي الحُرّية، حُرّية الاعتقاد، والفصل بين الدين والسياسة (ص 139).
في هذا الصدد، يُجادل الأفندي أنّ ظاهرة المُثقّف الحديث بدأت بالتشكُّل في القرن الثامن عشر في الغرب، أمّا في العالم الإسلامي، فإنّها لم تبرز إلّا بعد قرن من ذلك (ص 160). ويعتقد الأفندي أنّ للمُثقّف الإسلامي دور أساسي في مرحلة الانتقال إلى الحداثة، فيكون غياب هذا الدور سببًا لتعثُّر تجربة العالم الإسلامي في التحديث (ص 180). واعتبر عبد اللطيف المتدين أن الفقيه في الإسلام هو أبرز المُثقّفين مكانةً، فهو يلعب دورًا محوريًّا في المجالات السياسية والاجتماعية في المُجتمعات الّتي يكون فيها الدين أهم عنصر من عناصر الهوية، وبالتالي فإنّ الحُكّام في الإسلام كانوا حريصين على التقرُّب منهم، بل واستمالتهم، للحصول على شرعية من خلال ما يُقدّموه من فتاوى ذات تأثير في الحياة السياسية (ص 217).
خاتمة
من خلال إجابات الباحثين العرب على سؤال دور المثقّف، نجدُ أنّ دوره يتمحور في تسليط الضوء على القضايا والظواهر الاجتماعية المُختلفة وتفسيرها، كون المثقّف ابن واقعهِ في نهاية المطاف، ولذلك عليه التّخلي عن الدوغماتية التي تحولُ بينه وبين تقديم الأمل والدفع بالعامّة إلى عالمهم المنشود. ويظهرُ جليًا ضرورة انتقال المثقفُ اليوم من الشارع المادّي إلى الشارع الافتراضي، موظِّفًا كافّة الوسائل المُمكنة للاشتابك مع قضايا الرأي العام. ورُبما الأهم من ذلك كلّه، وعي المُثقف بمسؤوليته الأخلاقية لكي يبقى مُثقفًا بالفعل.