كان يجلس بجانبي صديقٌ فلسطيني، قال لي: «هل سمعت بخبر انفجار المرفأ في بيروت؟ إنه عملاق». لم أهتم بمفردة الانفجار وصفتها، كانت مفردة بيروت أكثر قرباً لي، دخلت إلى الإنترنت أبحث عن بيروت ولبنان في محرك البحث «جوجل»، العديد من الصفحات الإخبارية تحمل اسم بيروت وبجانبها انفجار ضخم، شيءٌ ما اهتزّ داخلي، ربما انفجارٌ قديم من انفجارات قطاع غزة أصدر صوتاً متعاطفاً مع بيروت. هذا أمرٌ مريب، بالنسبة لي على الأقل، الوقت ليس مناسباً لأي أحداث مأساوية أخرى؛ نواجه فيروساً ماكراً، لا لون له، أو وجه، جعل كل حياتنا وأوقاتنا محل شك؛ «هل سنكون هنا في الغد؟ هل أنا على ما يرام؟». أسئلة تزداد يوماً بعد يوم، وقلق يكبر مثل جرثومة داخل جسدك. الخارج ليس آمناً، والداخل مثل قنبلة موقوتة؛ العالم بأكمله يترقب سقوط اللحظات من فوق رأسه، ونحن على دراية أن القادم أسوأ، لكن «الأسوأ» لا يريد أن يحدث هذا كله.
خرجت من غزة –أو ربما الفعل «نجوت» أكثر ملاءمة هنا- لأن المسألة لم تكن سهلة على الإطلاق، كان لزاماً علينا أن ندفع مبلغاً مالياً يتجاوز الألف دولار كي نقفز من معبر رفح إلى مصر، ثم نفكر بماذا سنفعل بعد ذلك. لا أعرف لمن تذهب هذه المبالغ، قمت بتسليم الدفعة إلى صاحب مكتب سياحة وسفريات؛ كي يضع اسمي على قائمة السفر دون معاناة، ومع ذلك مكثت لأكثر من ثلاثين ساعة في الصالة المصرية أنتظر ختماً على جوازي يعطيني الحق في الدخول إلى مصر. هذه هي كوميديا الحياة! هربت من حروب تعيد تكرار نفسها كل سنة؛ لأنني لست جاهزاً للعراك مع طائرات ودبابات وأصوات مرتفعة، جسدي لا يقوى على ذلك، هذا الجسد الذي ينام متعرقاً لأن الكهربا لا تحب المدينة، ويستيقظ عطشاً، لا عمل لديه، لا رغبة في الاستمرار، لا حياة، ينام ويستيقظ، هذه هي مهمته فقط. ثم جاءت فكرة النجاة والهرب إلى مكان أفضل، مكان يحترم جسد الإنسان ورغباته من كهرباء وماء وعمل وكرامة.
ليس من السهل على إنسان خرج من قطاع غزة على بعد معارك طويلة ومملة؛ كي يجد جسده الراحة، أن تمر عليه مفردات مثل «انفجار، ضحايا، جرحى، إصابات، قتلى، شهداء، مجزرة، عدوان، نيران، رعب، صاروخ، مرض، حرب، عتم، تشرد، جثث، جوع، فقر، ركام، وموتى»، ولا يحرك ساكناً! هو لم يعتد بعد على نسيان تلك المفردات، ما زال منغمساً بها في أيام حياته، الحركة بالنسبة له مرعبة، الصوت مرعب، الأماكن المغلقة مرعبة، كل شيء يذكّره بما مر به سابقاً، العالم بحد ذاته فكرة مرعبة، ونحن كل ما نفعله هو أن نعتاد الخوف.
الخوف من ماذا؟ الخوف من التكرار، الخوف من إعادة التجربة وأنت لست جزءاً منها، مثلاً: المشاهد المفجعة التي كانت تأتي من بيروت، أعادت داخلي كل مشاهد الحرب والأصوات والحركة السريعة التي عشتها في حياتي خلال فترات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزَّة التي ما زلت أعاني منها حتى هذه اللحظة. هذا ما أسمّيه بـ«تكرار اللحظة العفنة»! الحزن والخوف لم يكن على لبنان، الخوف كان من الأشياء التي تستيقظ داخلنا. الخوف هو سيد هذا العالم، هو الحل والعقدة، مثل الخشب والنار.
اليوم وبعد سنتين ونصف تقريباً من محاولة النجاة خارج غزّة، إلا أنني –مصادفةً أو ضرورة- علقت في القاهرة، صرت غريباً زائداً في مدينة فيها كل الأغراب، أبحث فيها عن جدوى حياتي مثل أرنب كسول، قدمت أوراقي أكثر من مرة للسفر خارجها، لكن عقلية الورق غير مفهومة، أي خطأ بسيط فيها يجعلك متسمراً مكانك، وبعد المحاولة الثالثة ونجاحي في الحصول على فيزا سياحية إلى بلد آخر، وقبل أن أصل إلى بوابة الخلاص، جاء فيروس كورونا وحوَّل تذكرة الطيران إلى شيء بلا قيمة. في الحقيقة، كلنا أصبحنا بلا قيمة، عجلات صدئة عاطلة عن العمل، لا شيء نقدمه، لا شيء نحصل عليه، الحشرات الضارة تعربد في المكان، والكلمة الأخيرة بعد أن كانت للزجاج، صارت للغبار. وصارت اللمسة الواحدة تقتل. النفس الخاطئ، يقتل. القبلة، الشهوة، السيجارة، أعواد الكبريت، ذرات الهواء، الغرباء، أسطح البيانات، أسطح المكاتب، كل شيء من حوّلك تحول؛ الجمادات صارت جاهزة لسرقة دقائق حياتك.
وبعد أن قررت المكوث في القاهرة إلى أن يدق الحظ بابي المؤقت، صرت أخرج من المنزل مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع، واضعاً قناعاً طبيّاً على وجهي، أريد أن أشتري الخبز والماء وبعض المأكولات الأخرى كي أكمل حياتي داخل الحجر الصحي بعيداً عن ضوضاء الفيروسات والأمراض المتربصة لي فوق حجارة الطريق، وما أن أنتهي من شراء كل الأشياء التي خرجت من أجلها، أعود مسرعاً إلى المنزل، أغسل الأيدي كما أمرت وزارة الصحة العالمية، لأنني لم أعتد ذلك قبل جائحة كورونا، ثم أعود إلى حالة الملل مرة أخرى. في الحقيقة أنا من الأشخاص الذين يفضلون البقاء في الغرفة أطول وقت ممكن، لا أحب الخروج إلا لو كنت مجبراً ومحتاجاً لأن أفعل، ومسألة الحجر الصحي التي جاء لنا بها الفيروس؛ كنت معتاداً عليها سابقاً، وأسميها: الهرب من الأوجه التعيسة. أي بمعنى؛ أنه لا شيء جديد عليَّ، إلا أنك لا تحب أن تطبّق أوامر رغم عنك، فصرت أبحث عن أي سبب للخروج. هذه طبيعة النفس البشرية؛ تحب أن تفعل الأشياء من تلقاء نفسها، وإلا أنه لا جدوى لذاتك. تريد أن تنافس هذا الفيروس الذي يفرض عليك مللاً أن لا تحتاجه، يفرض عليك واجبات أنت لا تريد أن تقوم بها، يفرض عليك أموراً كثيرة أنت في مزاج لا يسمح بذلك.
ماذا باستطاعتنا أن نفعل؟ التأقلم هنا ربما يكون فكرة مرغوبة، لكن التأقلم على ماذا؟ على لبس القناع الطبي ورشَّ الكحول كل بضع ثوانٍ، والصلاة ألا تكون هذه السُّعلة -التي خرجت للتو- بفعل أولاد الفيروس وهم يلعبون الورق داخل رئتيك! صارت الفكرة غير جيدة بعد أن كانت مرغوبة، كل الأفكار والرغبات تتغير في لحظة واحدة، أو تختفي.
الكل لديه الآن شيء ما يحسد عليه، مثل أن تمتلك حسّاً يتسع لكل ما يحدث من حولك، الجميع لا يحتمل كمية الأحداث والأخبار السيئة التي تصلنا عبر شاشة التلفاز أو الإنترنت، نادراً ما تجد من يصمد رغم كل هذا. أن تمتلك قطعة خبز، وكوباً من الماء، وفوق رأسك ضوء المصباح، غيرك لا يمتلك هذه الأشياء في ظل الجائحة؛ أمر عظيم. انظر إلى اليمن، العراق، سوريا، لبنان، غزة، وغيرها، كلها مناطق تصنّف تحت خط الفقر، ما الذي نتوقعه منهم في مواجهة فيروس يأكل الأخضر واليابس. لا شيء! أفكر في غزة التي دخل إليها الفيروس قبل أيام قليلة، غزة التي تسعل أمراضاً وحروباً وفقراً وجوعاً وقلة كهرباء وماء وبطالة، وظلم عربي ودولي، سعلة الفيروس ستقضي عليها بلا أدنى شك.
ما أود قوله هو أنني اعتدت المعاناة، وصارت التعقيدات بالنسبة لي أمراً مضحكاً، أضحك لأنني لا أجد شيئاً آخر أفعله، كل شيء يحدث عبارة عن كوميديا. أن تنجو من سجن، وتدخل سجناً أوسع منه -هذا لا يعني أن القاهرة سجن- لا، لكن أي مكان تدخله وتريد الخروج منه ولا تستطيع، هو سجن بالمسمّى الفلسفي والعلمي.
إذن، ما هي بيوتنا الآن؟ أظن أن بيوتنا هو أن تكون صافي الذهن وأنت تعيش لحظاتك الأخيرة داخل العالم الذي يبدو أنه قد ملّ من مهمته في فكرة الكون، وأن تجد عنواناً واحداً تسجل فيه مكوثك الملائم، نحن الذين لا عناوين حقيقية أو واضحة لنا، نحن أولاد الأمكنة والأزمنة الخاطئة.