كانت المرة الأولى التي شاركتُ فيها بمقاطعة أكاديمية لـ «دولة إسرائيل» في حزيران/ يونيو 1986، والتي صادفت الصيف الثاني لي كعالم آثار متطوع في قسم الآثار والمتاحف في «إسرائيل» من خلال كليتي في جامعة بيبردين بكاليفورنيا، جنبًا إلى جنب مع طلاب من جامعة نوتردام وكلية كارلتون وجامعة كولومبيا البريطانية، حيث أمضينا أربعة أسابيع في مدرسة ميدانية على الشاطئ الشمالي لبحيرة طبريا (بحر الجليل)، قمنا خلالها بالتنقيب عن هياكل من قرى تعود إلى العصر العباسي والأموي والروماني في موقع كفرناحوم، وهي مدينة صغيرة تعود إلى القرن الأول الميلادي ويبلغ عدد سكانها 1500 نسمة، يُشار إليها في العهد الجديد على أنها «مدينة» يسوع المسيح (متى، الفصل 9: 1).
مع قُرب انتهاء ذلك الصيف الثاني في كفرناحوم، قرر مُرشد التنقيب السماح لمدرستنا الميدانية بأن تكون جزءًا من مشروع إنتاج فيلم جنوب أفريقي، والذي رأى فيه بعضنا على أنه يُطبّع أفعال «دولة إسرائيل» في معاملتها للفلسطينيين، وكذلك نظام الفصل العنصري المستمر في جنوب أفريقيا. لذا، رفضت مجموعة منا المشاركة لاحتمالية تفسير ذلك كموافقة ضمنية على تجريد الفلسطينيين لأراضيهم وقمع غير البيض في جنوب أفريقيا.
أنا متأكد تمامًا أن أحدًا لم ينشر أي شيء عن رفضنا هذا، ولن أدّعي أنه كان حجر دومينو سقط ضمن سلسلة من الأفعال المتماثلة، بل مثّل هذا الحدث منعطفًا حاسمًا تشكّل على إثره تفكيري والتزامي بسياسة أصلانية Indigeneity معينة، تشملُ التضامن مع الفلسطينيين كشعب. يركز هذا المقال على الأزمات المُتعلقة بالأصلانية في العالم الأكاديمي، وعلى وجه الخصوص يتطرق إلى هذين الصيفين في كفرناحوم، وفعل الرفض الذي حدث خلال الأسبوع الأخير من التنقيب عام 1986.
خلال القرن التاسع عشر، وعد علم الآثار التوراتي بإثبات أن الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد المسيحي يتّسقان مع الأدلة المادية للحفريات، وأن علم الآثار من شأنه تعزيز الأحداث التاريخية الواردة في الكتاب المقدس. بخلاف النقوش التي تذكر أمورًا مثل أسماء بعض ملوك إسرائيل القدامى وبعض الحملات العسكرية والمدن البارزة، لم يؤكد علم الآثار إلّا القليل مما جاء في الكتاب المقدس، ممّا مثّلَ خيبة أمل كبيرة لأولئك الذين استند إيمانهم إلى الدقة التاريخية للكتاب المقدس. وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، بات هدف علماء الآثار الذين يعملون في أماكن مثل كفرناحوم، تعميق الفهم العلمي للشرق الأدنى القديم.
كان مُدربنا مرجعًا رائعًا لفهم التاريخ القديم والطرق التي يتّصل بها مع عصرنا الحالي، وهو عالم الآثار فاسيليوس تازفيروس Vasillios Tzaferos (1936-2015)، الذي جاء إلى القدس من جزيرة ساموس اليونانية في عام 1950 عندما كان في سن الرابعة عشرة لدراسة اللاهوت، الذي قاده لقطع نذور رهبانية في نهاية المطاف، ممّا نصّبه كاهنًا أرثوذكسيًا يونانيًا. لقد تراجع فيما بعد عن نذوره وترك الكهنوت، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في علم الآثار من الجامعة العبرية.
عندما ذهبت مدرستنا الميدانية إلى القدس في رحلة ميدانية طويلة خلال عطلة نهاية الأسبوع، كنت ممتنًا بشكل خاص لخبرة فاسيليوس في كنيسة القيامة، وهي مجمع من المباني التي تضم مواقع للحج، حيث أُرسِلَت هيلينا من قِبَل ابنها الإمبراطور قسطنطين إلى القدس بحثًا عن قبر يسوع، وحيث أبلغت هيلينا بوجود ثلاثة صلبان وقبر. لقد نشأت الكنيسة حول هذه المواقع، والتي كان يُنظَر إليها من قِبَلِ الكثيرين على أنها المواقع الأكثر قُدسيةً في العالم المسيحي بسبب ارتباطها المفترض بموت يسوع ودفنه وقيامته. ينتهي طريق الآلام – وهو الشارع الذي يتبع درب الصليب الذي يُخلِّد ذكرى الأحداث التي أدت إلى صلب يسوع – عند الكنيسة، بينما يوجد عدد من المحطات الأخيرة في الداخل. وعلى مدار 1700 عام منذ اكتشاف هيلينا وأوامر قسطنطين ببناء كنيسة في الموقع، أصبحت كل زاوية وركن ورواق داخل الكنيسة وخارجها وبالقرب منها موقعًا لمعبدٍ أو ضريح يُخلِّد ذكرى الأحداث في قصة موت اليسوع والكثير غيره – خاصّة هيلينا – ممّن هم مرتبطين بتأسيس الكنيسة.
يواصل أتباع التقاليد المسيحية المختلفة إثارة هذه العداوات القديمة على الأماكن التي تُخلِّد ذكرى الأحداث التي لا يمكن لأحد إثبات حدوثها يقينًا في هذه المواقع بالذات، أو إن كانت قد حدثت أصلًا. ليست هذه بالطبع الصراعات الوحيدة في القدس أو فلسطين و»إسرائيل». خلال الصيف الأول لي في كفرناحوم، قمت بمحاكاة علماء الآثار بالكلية الذين كانوا متمرسين في تركيزهم على البقايا المادية للماضي بدلًا من اتّخاذ موقف من النزاعات المعاصرة من حولنا. ولم يتجاهلوا تلك الصراعات تمامًا، مشيرين إلى أمور مثل تنامي أعداد المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية وما يصاحب ذلك من انتشار لشبكات الطرق ونقاط التفتيش التي تفصل وتحمي الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين. ومع ذلك، بدا أن اعترافهم يشير إلى أن هذه المشكلات، مهما كانت مزعجة أو حزينة، من الممكن أن تُثير قلق شخص آخر غيرهم.
كنا نرى الشعب الفلسطيني فعليًا في كل مكان نذهب إليه تقريبًا، على الرغم من معرفتي لاحقًا بالطرق العديدة التي يعيشون فيها في الهامش. في عام 1985، كان الوصول إلى الضفة الغربية لا يزال متاحًا بالسيارة، مع غياب الجهاز العسكري الذي صعّب التنقّل، سواء عبر «الخط الأخضر» الذي يرسم حدود إسرائيل لعام 1948، أو في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. خلال رحلتنا الميدانية إلى القدس، أقمنا في فندق الأرض المقدسة الذي يقعُ في القسم ذي الأغلبية العربية من القدس، على بُعد بضع بنايات شمال البلدة القديمة. يبدو أن علماء الآثار من الولايات المتحدة عادةً ما بقوا في تلك المنطقة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن المدرسة الأمريكية للبحث الشرقي تواجدت في ذلك الجزء من المدينة، وأيضًا لأن الفنادق هناك كانت أقل تكلفة.
كنا نرى الفلسطينيين يوميًا في طبريا، وبينما كنا نحفر في كفرناحوم، كانت الحفريات الفرنسيسكانية على الجانب الآخر من الجدار تعتمد على العمال الفلسطينيين. وباستثناء التواصل مع الرجال الذين قادوا عربات الطعام بالقرب من نُزُل الشباب، كان الوجود العربي محدود ومُجرّد في المقام الأول. لا يعني ذلك أننا كوّنا الكثير من الأصدقاء اليهود أو المسيحيين غير العرب أيضًا. مع ذلك، كان معظم الأشخاص الذين قاموا بالتنقيب على صلة بدرجاتٍ متفاوتة بالمسيحية، وباستثناء فاسيليوس، كان علماء الآثار الثلاثة أو الأربعة الآخرون الذين عملنا معهم من دائرة الآثار والمتاحف من اليهود الإسرائيليين. كان ميخائيل، الذي التحق بكلية الدراسات العليا في الولايات المتحدة، هو الذي تعرفنا عليها بشكل أفضل لأن لغته الإنجليزية كانت جيدة جدًا.
ما لم يكن مجردًا هو دنو الصراع الجيوسياسي الذي كان متواصلًا على شمالنا وشرقنا. تقع كفرناحوم على بُعد أميال قليلة من مرتفعات الجولان، وهي منطقة تقع على الحافة الغربية على طول الجانب الشرقي من البحيرة، أما الحدود اللبنانية فكان طولها أقل من خمسين كيلومترًا إلى الشمال مع تحليق الغراب.
خلال الصيف الثاني من الحفر في كفرناحوم، أصبح الشعب الفلسطيني وحياته تحت الاحتلال أكثر وضوحًا بالنسبة لي ممّا كان عليه العام السابق، إذ قررت مجموعة صغيرة منا، نحن الآتون من جامعة بيبردين، الوصول قبل أسبوع من بدء عمليات الحفر، حيث قبلنا دعوة من صديق إحدى أصدقائنا للإقامة في منزله في مدينة المحتلة عام 1948، الواقعة بين القدس وتل أبيب. قضينا معظم ذلك الأسبوع مع شبان فلسطينيين عرّفنا عليهم الرجل الذي كنا باستضافته، وكانوا مثلنا في العشرينيات من العمر.
أما مُضيفنا، وهو شخص من الولايات المتحدة، فقد أخذنا في ذلك الأسبوع إلى مراكز التسوق للقيام بأشياء مثل تجربة البرغر في بيرجرناش Burgeranch وماكديفيدس McDavids، كما اصطحبنا أصدقاؤنا الجدد الفلسطينيون إلى منازل أصدقائهم وأقاربهم في الرملة، حيث كنا نجلس ونتحدث مع مُختلف العائلات في غرف جلوس مخصصة للزيارات والطعام والشراب.
هُنا، وبينما كنا نستمتع بالزيارات المختلفة التي كنا نقوم بها كل يوم، أدركتُ للمرة الأولى، أن الأشخاص الذين استضافونا لم يكونوا يتعرّفون إليّ من باب الفضول، بل كشخصٍ يشعرون معه بالتقارب عبر الزمان والمكان. لم يأتِ هذا التقارب من تاريخنا المُشترك من السلب فحسب، بل من الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في الكشف عن هذا السلب أيضًا. كنت أعرف بشكل مُبهم أن الولايات المتحدة كانت ترسل الكثير من المساعدات الخارجية إلى الحكومة الإسرائيلية، لكن خلال ذلك الأسبوع في الرملة أيقنت أن الأشخاص الحقيقيين ممن يذخر تاريخهم بالفخر، كانوا في أسفل سلم اهتمام هذه المساعدات.
لقد كان هؤلاء، كما أعرفُ الآن، هم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، أي أولئك الذين لا يعيشون على قدم المساواة مع الأغلبية اليهودية في إسرائيل؛ الذين يعيشون في الرملة وأماكن أخرى على جانب الخط الأخضر الذي تدّعي إسرائيل بأن لها أحقية فيها، وأولئك الذين شغروا وظائف في الأراضي المحتلة، أو عملوا في وظائف منخفضة الأجر غالبًا، أو لم يكن لديهم عمل على الإطلاق. لم تسنح الشهادات الجامعية لهؤلاء، خاصة الدراسات العليا، إلا بالقليل لتعزيز فرصهم في العمل بوصفهم أفراد فلسطينيين.
في نهاية الأسبوع التالي كنتُ في طبريا، جالسًا على الشرفة الطويلة أكتب في مُفكّرتي الميدانية. لم أكُن أُدرك حينها إلى أي مدى سأرى فلسطين بشكلٍ مختلف. بدأ الأمر بلقاءاتٍ يومية مع أشخاص فلسطينيين مثل بائعي الفلافل في عربات الطعام التي كنا نتردد عليها في طبريا، أو في السوق المقابل لنُزلِنا، أو بين الناس في الناصرة وبلدات أخرى في الجليل. لم يعُد هؤلاء بالنسبة لي مجهولين، بل أفراد لديهم قصص؛ قصص لم أكن أعرفها قط.
وبالعودة إلى كفرناحوم، بدأ الطلاب يتهامسون حول المنطقة التي كان فاسيليوس وعلماء الآثار الآخرين ينقبون فيها بهدوء. عثرت إحدى مجموعاتنا على عظام، ومع استمرار التنقيب، بات من الواضح أن العظام تعود لبقايا بشرية من إحدى المقابر. لم يُسمح للطلاب بالمساعدة في تنبيش المقابر، إلا أننا تمكنّا من الاقتراب بما يكفي لرؤية شكل الهيكل العظمي البشري يتكشّف بينما تُزال عنها الأتربة بشقِّ الأنفُس. كانت السرية في هذا التنقيب، والتي كشفناها بطريقةٍ ما، تدور حول توقيت هذا الاكتشاف. لقد قرر فريق علماء الآثار وأعضاء هيئة التدريس إغلاق موقع كفرناحوم والانتقال إلى بانياس، وهو موقع غير مُنقَّب وفيه معبد للإله بان (أعمدة وصور أخرى كانت معلقة فوق الأرض حرفيًا) شمال مرتفعات الجولان. كان من شبه المؤكد أن تتسبب حفريات المقابر بمشاكل وتأخيرات – حيث ستدخل قوانين حماية الموتى من البناء أو علم الآثار ضمن اللعبة، كما سيتورط رجال الدين، وستتسبب القرارات المتعلقة بكيفية المضي قُدُمًا بصداعٍ كبير.
برز فاسيليوس كعالم آثار عندما قام في عام 1968 بالتنقيب عن بقايا جنائزية للشخص الوحيد الذي يُمكن التعرّف عليه والذي مات عن طريق الصلب الروماني، لذلك كان يعرف الكثير عن المدافن. بالنسبة للكثيرين منا، كان الهيكل العظمي الجديد مصدر قلق. إن غربلة أنقاض منزل شخصٍ ما بعد 1800 عام من إقامتهم فيه كان في كفّة، وكان التنقيب عن عظامهم في كفّة أخرى.
انتشرت ذات صباح أنباء تفيد بأن فاسيليوس قد تعرف على مكان القبور. كانت آثار عُقد من العصر العباسي أو الأموي واضحة عند خط عنق الهيكل العظمي. بعد ذلك بوقت قصير، اختفت القبور ووُضعت في صناديق خاصة احتفظ بها طاقم فاسيليوس حرصًا على القطع الهشة. لقد حملوا الصناديق بعيدًا إلى مركبات حكومية في ساحة انتظار الدير، ثُم أخرجوها. إنّ بعض من الردود التي حصلنا عليها جرّاء طرح أسئلة على مدرسينا، ومن التفكير في الأسئلة التي لن يناقشوها، أصبح من الواضح أن صناديق العظام تلك كانت متجهة إلى منشأة تخزين في مكان ما في تل أبيب أو القدس، وكان لدينا انطباع بأن هذه القبور لن تُذكر في أيٍ من سجلّات الحفريات.
لقد تغير الاهتمام الشديد بالقبر فجأة عندما تبين أنه عربي. إن نفس اللامبالاة التي رأيتها على وجه موظف البلدية في مكتب تصاريح الرملة حلت محل الاهتمام النشط الذي تحلّى به علماء الآثار الإسرائيليين في السابق، إذا ما تم تعريف القبر على أنه مسيحي أو يهودي. في تلك الحالة، كانت العظام ستبقى مغطاة طوال فترة الإبلاغ عن الحفريات. من ناحية أخرى، كانت عظام العرب مصدر إزعاج، وأعتقد أنها لا تزال موضّبة مثل تابوت العهد في نهاية فيلم سارقو التابوت الضائع Raiders of the Lost Ark (1981).
قررت مجموعة صغيرة منا الانضمام إلى امرأة من نوتردام امتلكت خطة لكيفية رفض المشاركة في تطبيع الفصل العنصري واضطهاد الفلسطينيين. عندما استيقظنا في صباح اليوم التالي، أخبرنا المشرفين بأننا مرضى وأننا سنشارك في فعاليات غسيل الفخار في ذلك اليوم.
لا يمكنني كتابة ذكريات محددة لما حدث ذلك الصباح. لم تكن التفاصيل درامية. لم نقف ونستنكر أي شيء أو أي شخص. بعد كل شيء، كنا ضيوفًا في بلدٍ أجنبي يبعدُ آلاف الأميال عن الولايات المتحدة. كنا نمثل جامعاتنا أيضًا، وبشكل عام نحب ونحترم علماء الآثار الذين عملنا معهم. لم يكن أي منا يميل إلى نشر احتجاجاتنا كثيرًا، رغم أن الجميع اكتشف أنه لم يكن أيٍ منا مريضًا. كما أدرك معظمهم أن ما كنا نفعله هو استجابة لوصول طاقم من جنوب أفريقيا لتصويرنا. من الواضح أن فاسيليوس والإسرائيليين الآخرين من دائرة الآثار والمتاحف كانوا ينظرون إلى ما فعلناه بازدراء. لم يجرِ الحديث كثيرًا عن أي شيء حول احتجاجنا في حضورنا، لكن مجموعة من طلاب الجامعات الذين كانوا يعيشون في أماكن قريبة لمدة شهر اقتربوا من الاشتباك بعمق، فعرفنا أن زملائنا الطلاب سيتحدثون عنا مع بعضهم البعض. وإذا لم يكن هناك شيء آخر، فقد انزعج البعض منهم على الأقل لأن شخصًا ما في مجموعتك الصغيرة المكونة من ثلاثة إلى ستة أشخاص يجلس في الخارج، وهو ما يعني أن يقوم شخص واحد فقط بالعمل الشاق في ذلك اليوم. آمل أن يكون غيابنا قد دفع البعض في مجموعتنا إلى التفكير في معنى المشاركة في الفيلم الجنوب أفريقي.
ما أتذكره في يوم غسيل الفخار ذلك، هو أنه مهما كانت مخاوفنا عندما تجاوزنا خط الرفض، فقد أفسح ذلك المجالَ سريعًا لكثير من المشاعر والنكات والمحادثات الجيدة. كان هذا صحيحًا بشكل خاص عندما أتى طاقم الفيلم وأدركنا أننا قمنا بالشيء الصحيح. لم يكن علينا قضاء يومنا في التساؤل كيف أن تصويرنا سيُساهم في دعم نظام شرير وعنيف وغير إنساني في جنوب أفريقيا، أو يتماشى مع أسطورة البراءة التي تسمح بحدوث شراكات غير ملائمة مثل هذه، والتي نشأت ليس فقط لإخضاع السود في جنوب أفريقيا، ولكن أيضًا لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم. وبينما كان الناس يمرون بنا في طريقهم إلى المراحيض المتنقلة في ذلك اليوم، نظر إلينا بعض منهم على الأقل، متسائلين عما كنا نضحك عليه عندما كان من المفترض أننا مصابين بمرض.
لا يؤدي التضامن دائمًا إلى صباح ممتع يتخلله محادثات على ضفاف البحيرة – فالتضامن قد يكون مزعجًا ومخيفًا وخطيرًا. مع ذلك، يؤدي تجاوز هذه الخطوط إلى نشوء صداقة حميمة عادةً، ووضوح لا يوفره البقاء على الجانب الآخر من هذه الخطوط. في الواقع، كثيرًا ما حُذِّرتُ منذ ذلك الحين من قِبَلِ أولئك الذين يجدون دائمًا سببًا للبقاء في ذلك الجانب الآخر، إلى أي مدى يمكن أن يكون المرء وحيدًا بين غير الملتزمين وغير المكترثين، والمترددين خاصةً. تلك النظرات الغريبة من زملائنا الطلاب المتجهين إلى المراحيض المتنقلة كانت، على الأقل في بعض الحالات باعتقادي، مدفوعة بالتوق إلى أن يكونوا ضمن مساحة الصداقة الحميمة تلك.
كان الموسم الثاني في كفرناحوم محوريًا بطرق غير متوقعة، لا أزال أتذكرها حتى الآن. كان هذان الصيفان اللذان تلا التخرج في الكلية بمثابة افتتاح وإغلاق لمساحة محدودة، والتي اتّضح بعد مغادرتي لها، أنني شرعت في اتجاه لم يبعدني عنها أبدًا. بعد عامين ونيف من مغادرتي لكفرناحوم، أدركت تمامًا أكثر مما أدركته في الرملة في عام 1986، الطرق العديدة التي ارتبطت بها تجارب الفلسطينيين بشدة مع تجربتي. اللامبالاة التي رأيتها بين الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، والتي كانت ازدراء بحق، كانت لها أوجه تشابه في حياتي وتاريخي كفردٍ من أمة الأوساج، كما تجلت في مكتب الشؤون الهندية والبنى غير الفعالة للحياة المعاصرة في الولايات المتحدة التي تجعل الأصلانية غير مرئية وغير أصلية وغير منطقية ومن الزمن الماضي. كان أحد أسباب رغبتي في كتابة هذا المقال هو تذكّر ضآلة كل ما كنت أعرفه أو كوّنته عام 1986. على الرغم من كل ما لم أعرفه بعد، فإنني كنتُ أعي ما يكفي حت أرى الحقيقة وأتصرف وفقها. طوال مسيرتي المهنية اللاحقة كباحث وكاتب، حاولت الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وآمالهم وحريتهم، مع مراعاة واقعهم والسعي لفهم المزيد من التاريخ الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة.
كفرناحوم اليوم عبارة عن حديقة وطنية بها مبنى مُدهش يغطي ما يعتقد الفرنسيسكان أنه بيت بطرس، حيث يمكن رؤية الآثار القديمة للمنزل من خلال أرضية زجاجية. لا يزال دير الروم الأرثوذكس موجودًا، ولا تزال الأرض المحيطة به غير مُنقّبة إلى حد كبير. أحب أن أرى هذا الموقع مرة أخرى يومًا ما. إذا عدت إلى ذلك الجزء من العالم، فسأذهب بسعادة إلى نابلس، وفندق الأرض المقدسة، وأماكن أخرى في القدس والضفة الغربية. لن أذهب، على الأقل في الوقت الحالي، إلى كفرناحوم أو ميا شعاريم أو طبريا أو حيفا أو الرملة. هذا لأنني لن أعبر هذا الجانب من الخط الأخضر مرةً أخرى حتى تتحرر فلسطين. لهذا السبب، آمل أن أتمكن من القيام بالرحلة قريبًا.