عندما بدأ رجالات منظمة التحرير في الوفود إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو، صُدمنا بالكثير من الشعراء والفنانين الذين تربينا على أغانيهم وأشعارهم، والذين لن أسميهم بالطبع، وقبل أن تترسخ لدينا فكرة غير مدوزنة عنهم، تعرفنا بشخص واحد، لا يمكن تعريفه بغير كلمة “شاعر حقيقي”، جاء ليقلب المعادلة ويعيد إلينا التوازن.

فاجأني أحمد دحبور “أبو يسار” بأنه كان يتابع من الخارج جميع نتاجاتنا الأدبية، بل وكان يناقشنا فيها ويسمي الشعراء بالاسم ويتلو علينا بعض العبارات من بعض القصائد، وكأنه يسكن غزة معنا، وبدأت الثقة تعود إلينا، نجلس إليه، نشعر بأنه واحد منّا، بسيط، ومتواضع من غير تكلف، ورقيق إلى حد الخجل.

كان أحمد دحبور يعاني من مشكلة اشتهار أغانيه بشكل ناري، دون أن يذكر اسمه على الأغاني، فكلما ذكرنا أغنية نحبها من أغاني الثورة، فوجئنا بأنه كاتبها، وأنه كذلك كاتب عشرات الأغاني التي كنا نرددها صغاراً:

والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الاخضرـ اشهد يا عالم علينا وع بيروت ـ للقدس تشرع يا علمنا العالي ـ هبت النار والبارود غنى ـ دوس منت دايس ع الزناد ـ جمَّع الأسرى جمَّع في معسكر أنصار ـ بالنار خرجتِ من رماد الحقب ـ أنقاض شاتيلا مرت بنا فجرا ـ غزة والضفة ـ يا شوفة للنسر بيسافر بعيد ـ عوفر والمسكوبية ـ هيه يا اولاد فلسطين المشرد واللي فيها ـ في كل بيت عرس ودمعتان ـ مويل الهوى ـ لغة العاشقين ـ يمشي على الجمر ـ موال شروقي ـ وصية أم (الليل مارد والقمر هربان) ـ وردة لجريح الثورة ـ قامت القيامة بصور ـ شوارع المخيم ـ شعبي الصابر ع جراحه ـ يا موطني يا موطن الصمود والإباء ـ مهرة حرة ـ يدّك بيدّي ـ ربيعُ العاشقينَ ـ وقوفاً وقوفاً نحيي العلم ـ القدس معراج العرب ـ وردة وعودة ـ غزة كتبتلي بالليل ـ دق الرمح بعـود الزين ـ عدو النور.

صرنا ننتظر أربعاءه في جريدة الحياة، تلك الصفحة التي يكتبها تحت عنوان “عيد الأربعاء” مقتبساً الاسم من سوق الأربعاء في حمص، المدينة التي عاش في مخيمها، وبقي وفياً لمخيميته حتى لحظته الأخيرة، فأحمد دحبور هو أحمد دحبور أينما وجد، وقد فتح آفاقنا على كتّاب لم نكن قد سمعنا بأسمائهم، وكتب لم نكن قد رأيناها من قبل، فاتحاً لنا مكتبه في وزارة الثقافة، ومكتبته في بيته، فهو أول من يأتي إلى الوزارة وآخر من يغادرها، ولا أذكر يوماً أننا نطقنا بأحد الأسماء المبدعة أمامه إلا ونجده قد قرأ جميع نتاجاته، ويبدأ بسرد نتف من حياته وإبداعاته أياً كان هذا المبدع.

تمتع أحمد دحبور بذاكرة لا مثيل لها، ففي لقاء جمعني وإياه بالشاعر الراحل محمد القيسي، كان القيسي يعبئ طلباً ما، وكتب تاريخ ميلاده في الخانة المخصصة، فقام أحمد دحبور بتصليح تاريخ ميلاد القيسي، وبعد نقاش قصير اكتشفنا أن أحمد كان على حق، إلى هذا الحد كانت تعمل ذاكرته، فهو يروي لك تفاصيل التفاصيل في لقاء ربما يكون قد حدث قبل خمسين عاماً.

قال محمود درويش مرةً في تصريح نادر وغريب عليه: من أراد أن يفك مغاليقي فليرجع إلى العزيز أحمد دحبور.

هذا الكائن الجميل، أحمد دحبور، ولد في حيفا في الحادي والعشرين من نيسان عام 1946، وغادرها في نفس اليوم من عام 1948، لينشأ ويتعلم في مدينة حمص، وقد يدهشكم أنه لم يتلق تعليماً أساسياً كافياً، لكنه كان غول قراءة، فقد قرأ منذ صغره عيون الشعر العربي، قديمه وحديثه، وقرأ ميثولوجيات العالم كلها، وقرأ روايات وأساطير وفلسفة بحيث أنه كان يُعجز خمسة من حاملي شهادة الدكتوراه في تخصصات مختلفة في ذات الوقت عند نقاشهم.

عمل حتى عام 1988 مديراً لتحرير مجلة “لوتس”، كما عمل مديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحاز على جائزة توفيق زياد في الشعر عام 1988، وكتب العديد من أشعار فرقة العاشقين التي ساهم أساساً في تكوينها مع عبد الله حوراني، وأغانيه يعرفها الفلسطينيون جيداً، لكن معظمهم لا يعرف كاتبها.

أحمد دحبور أصغر شاعر تصدر له أعمال كاملة، وأصدر العديد من الدواوين الشعرية التي وضعته نقدياً بين أهم الشعراء في التاريخ الأدبي الفلسطيني، لكنه بقي كما كان دائماً، بعيداً عن الأضواء.

ومن ضمن ما أنتج: الضواري وعيون الأطفال عام 1964 في حمص، ولم يتجاوز يومها الثامنة عشرة من عمره، حكاية الولد الفلسطيني. بيروت 1971، طائر الوحدات ـ بيروت 1973، بغير هذا جئت ـ بيروت 1977، اختلاط الليل والنهار ـ بيروت 1979، واحد وعشرون بحراً ـ بيروت 1981، شهادة بالأصابع الخمس ـ بيروت 1983، الأعمال الكاملة ـ بيروت 1983 صدرت عن دار العودة في بيروت، وكان عمره سبعة وثلاثين عاماً، وتضمن مجموعاته الشعرية السبع حتى ذلك الحين، كسور عشرية 1992، هكذا، أي بيت، هنا هناك.

بالطبع، كأي شاعر مبدع، لا يمكن الإحاطة بمئات المقالات التي كتبها أحمد دحبور حول الشعر واللغة والمبدعين، لكن ما يعنينا في كل هذا، أننا أمام شاعر قدم لفلسطين أكثر بكثير مما قدمت له، شاعر لم تعرف قدماه طريق المؤسسة الرسمية رغم أنه ابنها، وقد يبدو هذا غريباً، لكن لو عرفتم أحمد دحبور عن قرب، لاكتشفتم أن الطفل الذي عاش في المخيم، يرفض أن يغادره إلى أي مكان آخر.

باب مكتبه في وزارة الثقافة لم يكن ليغلق في وجه أحد، وجهه وحده يكاد يدعوك للسلام والقهوة، وكشاعر عظيم كان يحتفي بكل صوت جديد يخرج إلى الساحة، فقد أدهشني أنه سألني في آخر زيارة له عن خالد عبد الله، وهو شاعر من غزة يعيش في فرنسا منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وما زال أحمد يذكره رغم ما أصابه من وهن في أيامه الأخيرة.

المفارقة، أنه رغم شهرته التي تجاوزت الآفاق، كان بعيداً عن الأضواء، تفرحه أية جملة تمدح نصاً له، يسعده أن يطلب منه الآخرون مقدمة لكتابهم، كانت روحه كريمة إلى درجة الإفراط.

برحيل أحمد دحبور يرحل جزء من تاريخ الوطن الشعري والثقافي، يرحل جزء من تاريخ اللغة، من ذكرياتها، من ألقها.

لم أتخيل بعد يا أحمد كيف ستكون الأيام بعد ذلك، أن تكون أنت خارج الزمان والمكان، لكنك تركت فينا ما لا نستطيع نسيانه حتى لو حاولنا ذلك، ووعدنا الأكيد لك، أن نجعل الجيل الذي يلينا يتذكر كل ما نعرفه عنك، فأنت تستحق، فبمثلك، وبمن هم مثلك فقط، تصنع سيرة الأوطان.

  • نُشِرت هذه المادة في العدد المزدوج [ التاسع والعاشر ] من المجلة
Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx