آفاق الفرح والمقاومة: مساحات السياسة. ممارسات الحياة.


لا تحتاج الجموع الهاربة إلى الترميم. إنها تحتاج إلى الحفظ؛ أي الانتقال، الاختباء، الاستئناف بالدعابة نفسها، والقصة نفسها، دائماً في مكان غير المكان الذي تطالهم فيها ذراع الدائن الطويلة؛ الحفظ من الترميم، إلى ما هو أبعد من العدالة، وأبعد من القانون.
«هارني وموتن 2013: 63»

على قمة تلة تطل على الجبال. في الغرفة الخلفية لمقهى. في أقواس البلدة القديمة. في الطابق الثاني من المكتبة. بين الأطلال. في غرفة مكتب مستأجرة. بجانب الجدار. في المسرح. ممارسات جماعية مستترة أو غالباً غير مرئية، تُرتجل بين «الحاجة» و«الفعل». تبدو غير مرجحة، غير منفصلة عن بُنى الحياة، ترسم علاقات جديدة بين الفردية والعامة، الانسحاب والمهاجمة، الفرح واليأس. الجموع الهاربة. ما وراء العدالة. ما وراء الإصلاح. ما وراء السيطرة. دائماً في مكان آخر.
عبر التنقل بين أسطح المنازل والأقواس والقرى ونقاط التفتيش والكهوف والدمار والمكتبات، وعبر تاريخ معقد وطويل من النضال، يتكرر سؤال بسيط. بعد حياكة أسبوع من الزيارات لمبادرات نضالية، يبقى السؤال: ماذا يعني الاستمرار؟
في مكان ما بين كفر مالك ورام الله مروراً بالقرى، والمستوطنات المتنوعة، والجبال، حدثنا منير فاشة عن «المجاوَرة». عقب مغادرتنا جمعية العطاء متجهين نحو رام الله، وأثناء مرور الحافلة عبر قرية صغيرة، لاحظ فاشة بعض منشآت المياه التي بقيت كما قال منذ الانتفاضة الأولى، عندما كان الناس في ذلك الوقت يرتجلون، بشكل جماعي، الطرق لإعادة تنظيم البنى التحتية العامة. الـ«مجاوَرة»، كما أوضح فاشة، هي حالات يجد فيها الناس طرقاً للعمل معاً، وإنشاء هيكليات وبنى تحتية اجتماعية. إنها ربما، على حد تعبير الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس (1998)، شكل من أشكال التعزيز الذاتي التي تتمثّل بقدرة الناس على مساءلة الخيال المجتمعي وصنع قوانينهم الذاتية (الأوتو-نومي تترجم إلى القانون-الذاتي، أي إنشاء قوانين ذاتية). وفقا لكاستورياديس، تنسب المجتمعات المتباينة خيالها إلى سلطة اجتماعية خاصة، ولكن هناك دائماً فرصة بدء مجتمع مستقل يؤسس الناس فيه أنفسهم ذاتياً.
كذلك يبدو أن مفهوم «المجاورة» هذا مرتبط بشكل غير مألوف بالأفكار والممارسات الحديثة حول «المشاعية» التي أثَّرت، بشدة، على مناهج كثيرة من الفكر السياسي واللغة السياسية في نضالات شتى ظهرت بعد العام 2000. غالباً ما تعمل ممارسات «المشاعية»، وبخاصة في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كبُنى للتضامن وللتدريبات المعقدة في التربية الاجتماعية إثر انهيار أنظمة الدعم الاجتماعي العامة. كلمة المجاوَرة في قاموس اللغة الإنجليزية تعني «شخص يعيش بجوار أو قريب جداً من المتحدث أو الشخص المشار إليه؛ شخص أو مكان ذو علاقة بالآخرين بجواره أو قريبين منه؛ يشبههم، أو يكون نسخة عنهم؛ وثيق الصلة بهم؛ وأن يكون قريباً من أي شخص يحتاج إلى المساعدة أو المعاملة الطيبة» (قاموس أكسفورد). يذكرني التعريف اعتباطياً بكلمة أخرى وهي: «الرفيق»، المشتقة من كلمة «كاماراد» الفرنسية والكلمة اللاتينية «كاميرا»، أي «القمرة/الغرفة»، التي في الأصل تعني «رفيق بالغرفة».

في كتابهما احتلال اللغة، تدّعي مارينا سيترين وداريو أزليني أن «اللغة ليست محايدة، وأن الكلمات تنقل وتعبِّر عن مفاهيم وطرق تفكير مختلفة»، وبخاصة الكلمات المستخدمة لوصف ممارسات اجتماعية معينة، التي تحمل سيراً تاريخية محددة وحالات فشل ومعارف شتى. من ناحية أخرى، تسعى الممارسات، حديثة النشأة، إلى الابتعاد عن الممارسات المعمول بها في كثير من الأحيان، وفي الوقت نفسه التشابك مع طرق العمل القائمة في سياقات طبيعية اجتماعية-سياسية محددة. سيترين وأزليني يريان أن «اللغة المستمدة من نضالات (المجتمعات) تأتي مع سوابق تاريخية» (2012: 9). هل يمكن، إذن، أن تكون الكلمات والمفاهيم والممارسات المختلفة عبر تاريخ النضال المتنوع عبارة عن لغة سياسية هاربة؟ كيف يمكن للكلمات والممارسات أن تعترف بالمشاكل والتعقيدات في مسار تاريخي وتبقي عليها، في حين تحاول المساهمة في خلق تخيلات تحولية؟
يستنتج فاشة أن ممارسات «المجاورة» تصبح ممكنة في حال غياب المؤسسات بأشكالها المختلفة.
في مدينة الخليل القديمة، معظم الشوارع مسدودة. لقد تم تعطيل بُنية المدينة عبر الحواجز الإسمنتية والقضبان الحديدية ونقاط التفتيش التي تفصل أجزاء المدينة وشوارعها عن بعضها البعض. ماذا يحدث لممارسات «المشاعية» و«المجاورة» غير المرجحة، في ظل وجود المؤسسات؟ وحين تلمّح هذه الأخيرة بالقوة إلى سلطتها؟ هل يمكن لمثل هذه الممارسات أن تستمر؟ وبأي شكل؟

التنقل عبر أسطح المنازل والأقواس والقرى ونقاط التفتيش والكهوف والدمار والمكتبات والممارسات التي نواجهها، كل ذلك يلمِّح إلى أنها تنتج علاقة مغايرة مع السياسي. بُنى مقاومة كقوى للحياة. إنها بُنى أساسية وقوية كحال «اليومي». غير أنها راسخة في «يومي» ينتمي لاستمرارية معطّلة. إنها بُنى مقاومة لا تسعى إلى أن تعرَّف بالسياسية فقط، بل إنها ربما تشكّل تعبيراً مختلفاً ومحتملاً للكيفية التي يمكن أن نعمل بها اليوم في مثل هذه الظروف؛ «السياسي» هنا يظهر كعنصر لا يمكن تفاديه، إنه حاضر دوماً، مترسِّخ بشكل حتمي في «اليومي» عبر الأشياء التي نستثمر وقتنا بها، في العلاقة مع الآخرين – كما لو أنه وقت ما بعد المستقبل. الممارسات الجماعية المنظمة ذاتياً مثال تربية النحل، والزراعة والفلاحة، والدراسة معاً، والمسير لاستكشاف الكهوف، وإعادة تنظيم المسرح، وكتابة تجاربنا ونشرها، جميعها تبدو وكأنها تَرسم بُنى صغيرة تعيد التفكير في آفاق «العمل والتراجع عن العمل». إنها استراتيجيات صغيرة للبقاء على قيد الحياة في ظل استمرارية معطّلة. أشبه بالعودات المسكونة وأمثلة «المجاورة». ولحظات من الفرح التي تعطّل المتعارف عليه. إنها مضمرة في الأشياء التي نأتي عليها وتتعدى البُنى المهيمنة علينا. فكما قالت إحدى السيدات في جمعية العطاء: «من المستحيل العيش هنا دون أن تكون منخرطاً في السياسي» – لكن هذه الممارسات تثبت، أيضاً، ضرورة الانخراط المباشر في أساسيات الحياة. «إنها ليست مسألة من يثبط عزيمتك»، كما يكتب ستيفانو هارني وفريد موتن (2015)؛ «ما يهم هو من يرفعك»، داخل وما وراء الانكسار. داخل وما وراء الواقع المرير.
تتساءل لورين بيرلانت (2017) كيف يمكن أن نرفض أوضاعاً نكون فيها عالقين دون أن نصبح فوق-تاريخيين. لأنك لا تعرف كيف تتحرك، فإن سبلك لم تَعُد ناجعة. تقدم هنا بيرلانت مصطلح «البُنى التحتية التحولية» للحديث عن بنى تحتية لأوقات انتقالية أو أوقات مقلقة. فتدّعي أن إحدى المهام الأساسية في هذه الحالة تتمثل بتوفير البنى التحتية لتمكين التحول، وبالتالي «خلق شكل مغاير من داخل حال الانكسار، يتجاوز متطلبات الأزمة الحالية، ويظهر كبديلٍ عنها كذلك … فبينما أنت تمضي قدماً في حيز حالة الانكسار، يطرأ التحول (ربما)» (2016: 393). وتخلُص بيرلانت إلى أن البنى الأساسية ليست مشابهة المؤسسات، إنما تُحدّد وفق القدرة على استخدامها.
لعل مثل هذه البنى الناشئة للحياة في الأوقات الانتقالية، في «أشكال مكسورة»، قد تعمل كبنية تحتية تحولية، يجري تعريفها وفق القدرة على استخدامها ضمن قيود محددة هنا والآن. إن الأوضاع الطريدة متواصلة التحول، لا تعرف الاستقرار، لا تصل أبداً – بعيدة عن الأنظار، دائمة الحركة. البحث عن الطريق عبر التجارب السابقة والحالية، والكلمات والمعاني المفقودة. خلق الوقت من داخل الانكسار، وأفق لا يمكن لمجريات الحياة أن تهرب وراءه؛ إنما العودة إلى ما لا يمكن الفرار منه، وإلى ما هو دائم الحضور. لربما تنفع مثل هذه الأوضاع كلغات تحولية، وكسبل للعمل، وكبنى تحتية دائمة التطور والحركة. دائماً في مكان آخر. التأسيس بشكل عابر لما هو عفوي وغير ممأسس، كالفرح. لحظات مواتية من القدرة التحولية التي تتحدى وترتجل بشكل متكرر الشكل الذي قد تتخذه الاستمرارية، ومجرى الأشياء وسبل عملها، والكلمات. قبول استحالة أن يعاد اختراع الأشياء، أو أن يجري استنساخها، إنما خلق الفرصة للتكرار يصبح، كما تقول بيرلانت، «البنية التحتية التحولية».


لقد تم تحديد مفهوم المقاومة في علاقة تقتصر على النفي فحسب. إلا أنه، وكما ترون، فإن المقاومة ليست مجرد حالة نفي، بل هي عملية إبداعية. الإنشاء وإعادة الإنشاء، تحويل الوضع، الانخراط بشكل فعال في العملية؛ هذا ما تعنيه المقاومة.
(فوكو، 1997: 167).

المراجع

  • بيرلانت، لورين. (2016). «العامة: البنى التحتية للأوقات العصيبة» البيئة والتخطيط، د: المجتمع والمساحة. مجلد 34 (3): 393-419.
  • بيرلانت، لورين. (2017). «سؤال وجواب حول البنى التحتية المتحولة»، استعراض أمام برنامج العامة على الرغم من كل شيء: العوائد العنيدة وما بعد حياة السكان. أثينا، 25 أيار.
  • كاستورياديس، س. (1998). المؤسسة المتخيلة للمجتمع، كامبريدج: مطبوعات MIT.
  • فوكو، م. (1997). «ولادة السياسة الحيوية»، في: فوكو، م. أخلاقيات: الموضوعية والحقيقة، رينبو، ب، نيويورك: المطبعة الجديدة، صفحة 73-79.
  • هارني، س، ف. موتين. (2013). دون المشترك: التخطيط الهارب والدراسة السوداء. نيو يورك: ماينور كومبوسيشنز.
  • سيترين، م. و د. أزيليني. (2012). احتلال اللغة: الموعد السري مع الماضي والحاضر، نيو جيرسي: مطبوعات زوكوتي بارك.
  • هارني س، ف. موتين. (2015). «مايكي وريبيليتور». البحث في الأداء. مجلد. 20 (4): 141–146.
  • سيترين، م. و د. أزيليني. (2012). احتلال اللغة: الموعد السري مع الماضي والحاضر، نيو جيرسي: مطبوعات زوكوتي بارك.
Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx