على طريقٍ مغبرّ في الهند، كان رجل يجلس كل يوم يبيع شرنقات. على الجهة الأخرى من الطريق، كان يجلس صبي يراقبه. في يوم من الأيام سأل الرجل الصبي: هل تدري الجمال الكامن في هذه الشرنقات؟ سأعطيك واحدة لتشاهد جمالها بأم عينك؛ لكن من الضروري ألا تلمس الشرنقة حتى تخرج الفراشة منها.
سُرّ الصبي كثيراً بالهدية، وركض نحو البيت ليراقب الشرنقة؛ وضعها على الأرض. لاحظ أمراً مثيراً. رأى الفراشة تضرب بجناحيها الضعيفين على الغلاف القاسي حولها. شعر أن الفراشة ستموت قبل أن تقدر على كسر الغلاف المسجونة فيه. أشفق الصبي علي الفراشة وأراد –بكل حسن نيّة– أن يساعدها. كسر الغلاف؛ اندلقت على الفور مادة رطبة قبيحة بنّية اللون، سرعان ما توقفت الشرنقة عن الحركة والحياة. فحزن الصبي كثيراً.
عندما علم الرجل الذي أهداه الشرنقة بما حصل، قال للصبي: تحتاج الفراشة، من أجل أن تقوى أجنحتها –لتصبح قادرة على حمل ذاتها– أن تضرب بأجنحتها على الغلاف الذي يلف جسمها، إذ فقط عن طريق وضع هذا الجهد تصبح الأجنحة قوية، وتصبح الفراشة قادرة على الطيران. مساعدتك لها منعها من القيام بالجهد الضروري لنموها، وبالتالي سلبها قدرتها الطبيعية وفرصتها الوحيدة للبقاء.
تعكس القصة الوضع في المجتمعات الحديثة وفقداننا لحكمة غالية؛ ألا وهي أهمية عدم القيام بأي عمل أو مساعدة تسلب الناس والمجتمعات ما لديهم من قدرات طبيعية ومقومات ذاتية، اعتقاداً منا (عن حسن نية أم عن سوئها) أن ما نفعله هو عمل خير. لعل سلب الناس قدراتهم ومقوماتهم وطرق عيشهم تحت ادّعاء خدمتهم وتنميتهم وتطويرهم ومساعدتهم هو من أهم أسباب الخلل الذي نشاهده في المجتمعات حالياً حول العالم، ولعله في الوقت نفسه أقل أنواع التخريب وعياً لها.
تشمل عملية السلب مجالات عدة: سلب قدرة الناس البيولوجية على التعلم، وقدرة الجسم على الشفاء، وقدرة الناس على إدارة شؤون الحياة اليومية والقيام بما يحتاجونه من أمور. ولعل أسوأ أنواع السلب؛ سلب الناس عناية بعضهم لبعض، والمساعدة المتبادلة فيما بينهم دون مؤسسات ومهنيين، إذ هو سلبٌ يؤدي، عادة، إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الروحي الضروري لحيوية المجتمع وتماسكه وعافيته، ولعافية الناس النفسية كما يؤدي إلى طمس روح الضيافة والكرم، والتجاور والتحادث، التي ميزت جميعها مجتمعات ما قبل العصر الحديث الذي نشر الاعتقاد بأن الحياة مكونة من فكر ومادة فقط! إن المساعدة التي يشعر بها طرف أنه أفضل وأكبر شأناً من طرف آخر، تتناقض مع عافية الإنسان والمجتمع، كما تسلب الناس كرامتهم. فحتى تتوافق المساعدة مع عافية الإنسان وكرامته، من الضروري أن تكون متبادلة ونابعة من الداخل. كما أدى تمركز المساعدة والرعاية بمؤسسات وهيئات رسمية إلى تكديس السلطة والمال في أيدي قلة، ما جعل الحافز لما يعملونه مصالحهم الذاتية لا عافية الناس الذين تدعي المؤسسات أنها تساعدهم. الوضع الفلسطيني كالعادة هو بمثابة مجهر يمكن أن نرى من خلاله ما يحدث في العالم الأوسع. مثلاً، الفترتان اللتان خبرتهما حيث كنا كفلسطينيين قادرين على القيام بما هو ضروري لحياتنا (وأتكلم هنا عن الضفة الغربية حيث أعيش) هو عقد السبعينيات والانتفاضة الأولى. ما ميز الفترتين، على الرغم من الأوضاع السيئة، وجود أمل لدى الناس، نبع من الدعم المتبادل بينهم، ومن علاقات جميلة فيما بينهم، ومن قيامهم بمهام الحياة دون مساعدات، بل بما هو متوفر بالمجتمع ولدى الناس، والشعور بالمسؤولية. ربما أسوأ ما نتج عن أوسلو على مستوى الناس، هو تحويل الأمل إلى توقعات، والواجبات إلى مطالب، والقدرات إلى حاجات.

تنمية

منذ العام 1949 كانت الكلمة السحرية التي سلبت الناس قدراتهم ومقوماتهم وكرامتهم وطرقهم في العيش هي كلمة تنمية. لم يكن هناك قبل العام 1949 أي برنامج في أي جامعة في أي بلد، يحمل اسم تنمية. في المقابل، صعب جداً إيجاد جامعة في الوقت الحاضر لا توجد فيها برامج ودوائر عدة تحمل «مفردة» التنمية!
في العام 1949، أعلن هاري ترومان (رئيس الولايات المتحدة حينئذ) أن الشعوب خارج الولايات المتحدة وغرب أوروبا غير نامية بما فيه الكفاية، وأن على أوروبا والولايات المتحدة مساعدتهم في تنمية أنفسهم ومجتمعاتهم! كانت تلك المساعدات بمثابة حصان طروادة الذي هزمنا من الداخل، وأعاد سيطرة تلك الدول على مختلف نواحي حياتنا. ونحن (ببراءة لا مبرر لها) احتضنا تلك التنمية وما زلنا نحتضنها.
قبل ذلك، بدأت عملية سلب في بلاد الشام بالمعرفة، عبر تأسيس مؤسسات تعليمية غربية بدءاً بالجامعة الأمريكية في بيروت العام 1869، وفي الآن ذاته، تغييب وإهمال واحتقار ما لدى الناس والمجتمعات والحضارة العربية الإسلامية من معارف. ولعل أخطر ما حدث هو تغييب الحكمة التي ميزت هذه الحضارة أكثر من أي شيء آخر. انتقل هذا السلب لاحقاً إلى جامعاتنا، حيث الحكمة مغيبة من أجوائها وروحها، ومن ثم انتقلت إلى الأرياف عبر برامج مساعدة وتنمية وتطوير، أدت إلى سلخ الناس عن الأرض والثقافة وتحويلهما، وتحويل الناس والمعرفة إلى سلع لها سعر في سوق الاستهلاك.
المساعدة التي فيها عافية الناس كانت وما زالت تتمثل في مساعدات متبادلة لا دخل للمؤسسات فيها، كما أنها تتمثل في التفاعل والتعامل بين الناس، وفي أمور مثل الضيافة والكرم والتحادث، ففي مثل هذه الأوضاع، يتمّ نمو حكمة وجدل نسيج اجتماعي روحي، اللذين بدونهما –أي بدون النسيج والحكمة– لا يمكن أن تستوي الحياة.
معارف الأهالي ومعارف المؤسسات
معظم ما نشهده حول العالم من أزمات وتخريب لم يكن مصدره الجهل، بل مؤسسات ومهنيون وخبراء وعلماء هم بمثابة خَدَم لمراكز القوة والتراكم الأُسّي لرأس المال. هناك متمردون لكنهم قلّة. الاحتلال المعرفي هو أخطر نوع لأنه الأعمق أثراً والأقل وضوحاً، ويعتمد على ادّعاءات بالعالمية، كانت قد بدأت في العلوم والرياضيات بمفاهيمها وممارساتها التي نمت ضمن الحضارة الأورو-أمريكية الحديثة، قبل أن تنتقل إلى الدين والسياسة. إن مثل هذه المفاهيم التي تدعي العالمية، أشبه بأصولية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، إذ تحاول أن تقضي على التنوع في الحياة والفكر والتعبير! فالاعتقاد بحلول عالمية تطلّب الاعتقاد بمسار أحادي عالمي للتقدم والتعلم والمعرفة، كما تطلّب مصادرة الحكمة وتغييب معانٍ ومصادر متنوعة للمعرفة، بما في ذلك الشخص نفسه، ومن وما حوله. ضروري التمييز هنا بين المعرفة كشيء مرتبط بالطبيعة ونابع من الحياة، والمعرفة كشيء مرتبط بسلطة ونابع من مؤسسات ومهنيين مرخّصين؛ بين المعرفة كأسلوب حياة وطريقة عيش والمعرفة كسلعة في سوق الاستهلاك؛ بين المعرفة كشيء يعيشه الشخص والمعرفة كشيء يكتسبه ويبقى خارجه. المعارف الأولى مرتبطة بالأهالي، والثانية بمؤسسات. ترتبط الأولى بإدراك التعلم كقدرة بيولوجية، كشيء يفعله الشخص لنفسه (صقل الفكر والتعبير والفهم والتعامل)، والثانية بالتعلم كقدرة مكتسبة، كشيء يعطيه شخص لآخر.
وقد أدت سيطرة المعرفة الثانية إلى احتقار الأهالي، الذين يعيشون خارج هيمنة المؤسسات، ومعارفهم وفنونهم وطرق عيشهم واعتبارها صالحة فقط في مهرجانات إحياء التراث وما شابه. ما عمّق المصيبة هو استعداد المؤسسات «للمساعدة» في تنمية الأهالي وتمكينهم!
تغييب معارف الأهالي تطلّب إلغاء الأهالي ككائن اجتماعي ومكوِّن مجتمعي كان عبر العصور شريان الحياة في المجتمعات البشرية. تم تمزيق هذا الكائن واستبداله بمؤسسات منشؤها سلطة، واستبدال الأهالي بأفراد مشرذمين يُطلَق عليهم «مواطنين». كذلك، تطلّب تغييب معارف الأهالي مصادرة كلمات ومعانٍ منبعها الأهالي؛ مثل حكمة وضيافة وكرم ومجاورة وكرامة وتأمل واجتهاد ونسيج مجتمعي، واحتلال كلمات أخرى محلها. فقد هُجِّرت الضيافة ليسكن مكانها الاستهلاك؛ وغُيِّبت الكرامة لتحل محلها الحقوق؛ واختفت المجاورة لتحل محلها المحاورة؛ وتراجع احترام الطبيعة ليحل محلّه إخضاع الطبيعة (الذي حكم فكر العلماء وسلوكهم منذ بداية العصور الحديثة). تمت هذه الأمور عبر مهنيين مدججين بشهادات ترتبط بالسيطرة ومراكز القوة. تمّ طمس أنظمة معرفية مرتبطة بالأهالي وصعود أنظمة معرفية أصولية (وبخاصة العلوم والرياضيات المهيمنة). وُضِع العقل على العرش قبل أربعة قرون وسُجِنت الحكمة التي هي أول ضحية للاحتلال المعرفي، بينما تمّ تمزيق نسيج الأهالي لتحل محله علاقات رسمية هرمية.
فرق آخر بين معارف الأهالي ومعارف المؤسسات يتعلق بفكرة التقدم. المعرفة في المؤسسات تعكس تقدماً وفق خط عمودي، وتعني عملياً الحرب على ما هو طبيعي. في المقابل، ترتبط المعارف لدى الأهالي بدورة الطبيعة والحياة، وتنطلق مما هو متوفر وجميل وملهم ومتعافٍ وفيه حكمة. لذا فإن سؤالاً جوهرياً يجب أن نسأله دوماً هو: «كيف يعيش الشخص معرفته؟» وهو سؤال يعكس القناعة بأن المعرفة فِعْل.

المعرفة كفِعْل

جذر كل كلمة باللغة العربية فِعْل. جزء من جمال اللغة العربية أن جوهرها أفعال وليس أسماء أو صفات؛ أي أن الفعل هو الأصل. هذه الحقيقة تجعل العربية لغة مرتبطة بالحياة، فالحياة فِعْلٌ وليست اسماً أو صفة. في الفِعْل حركة وفي الحركة بركة. أهمية التأمل والتفكّر والاجتهاد تكمن في ارتباطهم بفِعْل، بخبرة، بحَدَث، بظاهرة طبيعية أو مجتمعية. كذلك عبارة الإمام علي «قيمة كل امرئ ما يحسنه» تربط قيمة المرء بفعل. في المقابل، ترتبط قيمة المرء في المؤسسات برقم وليس بفِعْل. عبارة الإمام عليّ لا تقسم الناس إلى صفات كعارفين وجاهلين أو ناجحين وراسبين أو متعلمين وأميين، بل تردّ قيمة كل شخص إلى ما يحسنه. إذا تأملنا في الحياة اليومية، نلاحظ أن لغة الأهالي تحتوي في أغلبها على أفعال تستمد معانيها من الحياة (لا من سلطة ومؤسسات): ضَحِكَ، لَعِبَ، مشى، أكل، زرع، تحدّث، سبح، طبخ، حكى، شرب، غنّى. في عالم المواطنين والمؤسسات نلاحظ، مثلاً، وصف «الأول على الصف»، إضافة إلى سلسلة أسماء وصفات أخرى، منها: تنمية، حقوق، تعليم، هوية، دولة، تطوير، تكنولوجيا، علم، صحة، تميُّز.
كما نردد مصطلحات مثل «مجتمع معرفة»، و«مجتمع مدني»، دون النظر في معانيها وما تغيّبه وتلهينا عنه. «مجتمع مدني» يرتبط بالمدينة، ويوحي بأن الريف بحاجة إلى أن يسلك طريق المدن. كذلك، «مجتمع معرفة» يوحي بأن هناك مجتمعات تعيش بدون معرفة، ما يعني إهمال معارف الأهالي. لغة الأهالي (قبل أن تتحول إلى كتب مقررة) كانت تنبع من الحياة؛ كل كلمة لها تاريخ ومعانٍ متعددة ترتبط بسياق وفعل. لا توجد كلمة في الحياة لها معنى عالمي.
الجريمة المستمرة هي إلغاء معارف الناس وفنونهم وطرق عيشهم. مؤتمرات عديدة عُقدت، وما تزال تُعقد، حول التعليم الفلسطيني، ومقالات كثيرة كتبت حول التعليم، لا تذكر أيٌّ منها الفلاحين، ما يعني أنهم في فكر التربويين لا أهمية لهم ولطرق عيشهم ومعارفهم، وبالتالي تغييبهم كأحد أعمدة المجتمع. هذا التغييب كان نتيجة تغييب الحكمة. بدون حكمة، لا يمكن أن تستوي الحياة ولا على أي صعيد. العلاقة مع الطبيعة أساس كل حكمة.
نجد لقاءً واحداً فقط طالب بتعليم يرتكز على الزراعة والعلاقة مع الأرض والنسيج داخل العائلة: لقاء عقده الفلاحون بيافا العام 1929 لإعادة النظر في التعليم الذي فرضه الإنكليز. اليوم، وبعد مرور نحو 90 سنة على مؤتمر يافا، من الضروري العودة إلى التساؤل ليس حول جودة التعليم والحق في التعليم، بل حول تعليم يعكس تناغماً ضرورياً لعافية الناس والمجتمع. جزء أساسي من هذه العافية هو المجتمعات الفلاحية التي تعيش في الأرض ومنها. إن إلغاء معارف الأهالي الفلاحين، مثلاً، تجسد قبل عقدين في قبول المفاوضين في أوسلو بـ»غزة وأريحا أولاً». لو كان معهم مزارعٌ واحد لأصر على «الغور أولاً»، فالغور هو السلة الغذائية للفلسطينيين.
إن تحويل الأرض من مصدر رزق ومعنى وكرامة ووجود وبقاء وانتماء إلى تجريدات وشعارات ومساقات وإلى مادة للاستثمار، ما هو إلا تخريب للحياة وإلهاء عما هو جوهري: الأرض كأساس، والناس كمصدر لفهم ومعنى. لذا، عندما أثار فلاحو فلسطين قضية الأرض وعلاقة الإنسان بها في مؤتمر يافا، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، ابتداء بالعائلة، جسّدوا حكمة، من الصعب فهم كيف طُمست وكيف تحولت إلى شعارات ومصطلحات فارغة من أي مضمون الآن، حيث الكوارث التي نشاهدها حول العالم حالياً توقظنا إلى أهمية الأرض والطبيعة كأساس للخروج من الوضع الذي أدى إليه العالم المعاصر.

استعادة الحكمة في الحياة

جهاز آخر خطير على الثقافة والنسيج المجتمعي هو التعليم والإعلام اللذان تسيطر عليهما مؤسسات حكومية ومالية؛ وأكبر ممزّق للنسيج الاقتصادي هو التركات والبنوك «الوطنية» والحكومات المرتبط بقاؤها بقوى عالمية، ما يجعل ولاءها ليس لشعوبها، بل لتلك القوى، ما يؤدي عادة إلى نهب البلد وتمزيق المجتمع. هذه الأدوات –التعليم الرسمي المركزي والدولة الحديثة– التي ادّعى الغرب أنهما أدوات تقدم وتمدن، كانت وبالاً على الأهالي والمجتمعات والطبيعة.
في نقاش بين غاندي ونهرو (أقرب تلاميذه إليه) سأل نهرو غاندي محتدّاً: أليس هدفك إخراج الإنكليز من الهند؟ أجاب غاندي: «خوفي الأكبر أن يخرج الإنكليز وتبقى مؤسساتهم». فالمشكلة ليست في الأشخاص، بل فيما يحملونه من أفكار وما يجسدونه من قيم في أعمالهم وحياتهم. بقاء المؤسسات الإنكليزية يضمن استمرار احتلال عقول الهنود وعلاقاتهم. في نقاش آخر بينهما، حذّر غاندي من التركيز على المدن وإهمال الريف، إذ سيؤدي ذلك إلى تخريب الاثنين.
ترك الإنكليز فلسطين لكن بقيت مؤسساتهم تمزق المجتمع وتقتل مناعته الداخلية وتشلّ قدراته وتنهب مقوماته. ما حدث في السبعينيات والانتفاضة الأولى بفلسطين، وما حدث في تونس ومصر فيما بعد، فتح الأذهان لرؤية آفاق جديدة بما في ذلك البناء على مقوماتنا وقدراتنا. كان تخريب الحياة في العصور السابقة ناتجاً عن جهل، أما في العصر الحديث فهو ناتج عن تخطيط وتصميم ومعرفة وعلم، يجب التصدي له.
من أغلى ما يملكه مجتمع هو حيويةٌ نابعةٌ من داخل الأشخاص، ونسيجٌ يُجدل باستمرار فيما بينهم، نسيج اجتماعي فكري ثقافي اقتصادي روحي، يمكن تأسيسه، أيضاً، عبر حوار أصيل. وأستعمل هنا تعبير «حوار أصيل» للدلالة على حوار يدخله كل شخص بما هو أصيل لديه، سواء على الصعيد الشخصي أو الثقافي أو المجتمعي أو التاريخي؛ عندما يدخل الشخص في الحوار بمعانٍ وإدراكات وقيم يجسدها في حياته – أي عندما يأتي بكل وجوده، وليس فقط بأفكار لكسب حجة أو برهنة نقطة. من هذا المنطلق، يتضمن أي حوار أصيل عزة وتواضعاً في الوقت نفسه: عزة وكرامة لأنه لا يوجد شخص لا يمكن أن يضيف شيئاً أصيلاً، ويتضمن تواضعا لأن «المشروع الإنساني» لا يمكن احتكاره من قبل فئة أو طرف واحد، كما أنه لا يمكن أن يكتمل. بعبارة أخرى، لا يكون الحوار أصيلاً إذا وضع طرف واحد مكوناته (كما يحدث في كثير من اللقاءات والمؤتمرات). في أي حوار أصيل، لا يدخل الشخص بشيء أصيل فحسب، وإنما، أيضاً، بعقل منفتح وقلب رحب يساعدانه في التعرف على التنوع في الحياة والحكمة الموجودة في كل مجتمع وحضارة. الغرض من الحوار الأصيل ليس الفوز أو السيطرة، وإنما انفتاح العقل والخيال والروح لعوالم عدة في العيش والتعامل والتعلم وبناء معرفة. كل شخص (وثقافة وحضارة ودين) فريد، بحيث لا يمكن فهمه عبر تصنيفات ومفاهيم جاهزة. هذه «الفرادة» تشكل أساس عزة الشخص والتعددية في الحياة، ما يتطلب التحلي بروح الضيافة بمعنى استقبال ما هو غريب من طرقٍ في العيش (بما في ذلك طرق ربما لا نفهمها أو نوافق عليها) تكون بمثابة مرآة تساعدنا على توضيح وتعميق فهمنا لذاتنا وحياتنا. روح الضيافة هذه في مجال الفكر والإدراك والإصغاء تشكل أساس التواضع.
أفضل ما يميز الحوار الأصيل تجسيده لديمقراطية التعبير والمعنى؛ كل شخص مصدر تعبير ومعنى وفهم. من الطبيعي أن يكون بعض الأشخاص أكثر خبرة وأوضح بياناً، لكن هذا يحكمه السامع وليس سلطة.
من الصعب أن ينتج حوار أصيل ذو معنى إذا اجترّ شخص أقوال آخرين؛ أن يكون نسخة عن آخرين. لا يمكن أن يكون الحوار أصيلاً إذا سيطرت عليه وجهة نظر واحدة. الحوار الأصيل يحدث بين وجهات نظر نابعة من منطلقات وقناعات مختلفة جذرياً، بين «نسخ أصلية» مختلفة لا بين نسخة أصلية ونسخ باهتة عنها. فالموضوع هو مشاركة الناس في حكم ذاتهم وإدارة شؤون الحياة والمجتمع. الحوار الأصيل هو الذي يدخله الشخص بشعور فيه كرامة وجرأة، وحيث يتحدث من جذوره في الحياة والثقافة والتأمل والاجتهاد. إذا شعر شخص بخوف أو دونية، فإننا سنخسر وجهات نظر يمكن أن تغني الحوار وتعمقه.
النهج الذي اتبعه غاندي في النصف الأول من القرن الماضي يشكل مثالاً ملهماً في هذا الصدد وفي حكم الذات وإدارة شؤون الحياة. غاندي رفض أن يحاور الإنكليز من منطلقهم، مثل أن يكون الحوار حول إنشاء دولة يكون هو رئيسها، أو حول كيفية تحويل المؤسسات من إنكليزية إلى هندية. لقد رفض غاندي أن يدخل في حوار حول بناء مؤسسات، وتعليم، وحقوق وتنمية مدن، وصناعات، وركّز بدلا من ذلك على ما هو جميل وملهم ويتضمن عافية ووفرة في الحضارة الهندية، ولخص فلسفته بكلمة «سواراج»؛ كلمة هندية جوهرها التحرر وحكم الذات، أي العيش بطريقة تعتمد على ما يمكن أن يفعله الشخص والمجتمع بما هو متوفر لديهم، وليس بطريقة تعتمد على الخارج أو على مؤسسات ومهنيين. كان مثاله العملي لتجسيد ذلك هو النول الهندي في نسج ما يلزم من ثياب للشخص والعائلة، إذ كان غاندي مقتنعاً بأن مصانع النسيج في «مانشستر» ببريطانيا كانت وسيلة رئيسية في هزيمة الهند من الداخل، واستمرار السيطرة عليها. جديرٌ بالذكر، أيضاً، حوار غاندي حول الحقوق مع (H.G. Wells) حول ما كتبه الأخير العام 1940، وفيما بعد مع من كانوا يصيغون بند الحقوق في دستور الهند العام 1947. من بين ما كتبه غاندي: «إذا شدد الجميع على الحقوق ونسوا الواجبات سيؤدي ذلك إلى ضياع وفوضى، بينما إذا قام كل شخص بواجبه، فإن ذلك سيؤدي إلى وجود نظام بين الناس قاطبة. الحقوق التي لا تنبع من واجبات يقوم بها الناس على أكمل وجه، هي حقوق ليست ذات شأن … وهذا يشمل ليس فقط حقوق المواطن، وإنما حقوق الناس أينما كانوا».
إلى جانب ذلك، جسّد غاندي بعداً آخر في أي حوار ملهم وأصيل، ألا وهو أن يكون نابعاً من إيمان مُعاش، ومن خلال أعمال وعلاقات ومواقف بدلاً من لغة ومطالب، مثل ما فعل عندما وضع الاحتلال البريطاني ضريبة على الملح، إذ سار مشياً على الأقدام مسافة 240 ميلاً مع عشرات الآلاف من الهنود، حتى وصل البحر وحمل ماء بين يديه ليقول للهنود أن الحصول على الملح متوفر للجميع، ولا يحتاج إلى قانون، وبالتالي فإن قانون «ضريبة الملح» الذي وضعه الإنكليز هو مدعاة للسخرية. لم يدخل غاندي في حوار مع الإنكليز حول القانون على المستوى الفكري أو اللغوي أو القانوني، بل جسد حواره في موقف وعمل ألهما العالم في ذلك الحين، وما زالا يلهمانه.
نسمع عن غاندي كداعية للّاعنف، بينما من النادر أن نسمع عن جوهر ما جسده في حياته وفكره، وبخاصة «حكم الذات» والتحرر من هيمنة المؤسسات على حياة الناس. ما يدعو إلى التفكر أن شركاءه في النضال ضد الاحتلال الإنكليزي، مثل نهرو، لم يعيروا اهتماماً كافياً لما جسّده غاندي، إذ كانوا في لهفة لإنشاء دولة ولتنمية وفق نمط الاستهلاك، ما أدى إلى نمو عشر مدن، غير صحية للعيش فيها، على حساب الريف الذي استهلكته المدن، كما أدى إلى بناء «دولتين قوميتين» تملكان أسلحة نووية تكفي لتدميرهما! على الرغم من ذلك، لا تزال الهند مصدر أمل وإلهام حالياً، وذلك من خلال مئات الملايين الذين يعيشون بطرق خارج منطق الاستهلاك، حيث يقومون فيها بواجباتهم نحو بعضهم البعض دون الإضرار بالطبيعة مهما كانت المكاسب. يحاول أشخاص ومجموعات في الهند استعادة الروح التي استمدها غاندي من حضارته وجسدها في حياته، والتي عمل من خلالها على «تغيير التقاليد بطرق تقليدية»؛ أي دون تمزيق النسيج المجتمعي.
في منطقتنا العربية، لم تتبلور حوارات فيما بيننا أو مع الأيديولوجية الأوروبية بالروح نفسها التي حاورهم فيها غاندي وطاغور ومحمد إقبال. معظم الحوارات والكتابات التي دارت في المنطقة العربية منذ غزوة نابليون كانت حول كيفية اللحاق بأوروبا (وأمريكا فيما بعد)، ومن النادر أن شملت نقداً جذرياً لفكرة التقدم على مسار أحادي، ولأدواته المؤسسية الأساسية مثل التعليم والتنمية والعولمة والدولة القومية والديمقراطية والإعلانات العالمية. من النادر أن نسمع في منطقتنا العربية حوارات حول معالجة فضلات الإنسان، ولا حول تأمين مياه شرب نقية للأطفال سوى شراء قناني شركات بأسعار باهظة. لا توجد حوارات حول ما يشكل معرفة أو حول استعادة الحكمة. ربما مردّ ذلك هو القرب الجغرافي من أوروبا والتفاعل التاريخي المستمر معها، ما جعل الأصالة أصعب، وبخاصة بين المتعلمين. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك حوارات أصيلة جسدها الناس من خلال مواقف وأفعال من الضروري إبرازها في المرحلة الحالية التي يقصفنا فيها الغرب من جديد بقوة، وبشتى الوسائل، بكلمات تحاول إقناعنا بأن لا شيء لدينا يستحق الذكر. أقول: على الرغم من غياب أفكار وكتابات جسدت حوارات أصيلة، فإن ذلك لا يعني غياب مواقف وحركات في مجتمعات عربية جسدت روح حوار أصيل، حمل معه أملاً وإلهاماً وبذوراً لا تزال تحرك الناس.
عشت أنا شخصياً في فلسطين إمكانيات حقيقية لخلق حوارات أصيلة (قبل أن تجهض). مثلاً، في الفترة الأولى بعد حرب العام 1967، طرح الفلسطينيون (بما فيهم منظمة التحرير) فكرة إنشاء دولة في فلسطين تضم جميع الثقافات والأديان والشعوب يعيش فيها الجميع بسلام وعدالة وحقوق ومساواة. ألهمت الفكرة ملايين في حينها حول العالم، بما في ذلك بعض الإسرائيليين. عكس عقد السبعينيات بالضفة الغربية وقطاع غزة تلك الروح؛ كان مليئاً بالحيوية ومبادرات ريادية، قام بها الناس بدوافع ذاتية. حاربت إسرائيل والصهيونية فكرة «الدولة التعددية» بكل قوتها، فتراجعت منظمة التحرير، وانحسرت محاولات كانت تتبلور لتعميق حوار أصيل حول الفكرة، وأعلن عرفات قبوله بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع في خطابه في الأمم المتحدة العام 1974. خسرنا فرصة ثمينة لخلق حوار حول رؤيا كان من الممكن أن تلعب دوراً ملهماً، ليس لنا فحسب، بل لكثيرين حول العالم.
إن خلق حوار أصيل ربما يكون أكبر وأهم تحدٍّ نواجهه في العالم المعاصر؛ حوار أصيل يرافقه فعل لا ينطلق من أوروبا والولايات المتحدة اللتين تعتقدان بوجود مسار أحادي للتقدم. بل يكون من مسؤولية من يعيشون وفق قيم وإدراكات ومفاهيم تختلف جذريا عما هو سائد، أي على عاتق أشخاص ليسوا جزءاً من الأيديولوجية السائدة ويعيشون خارج الأضواء الساطعة التي تحدد من له قيمة ومن ليس له. عندما كتب فانون «المعذبون في الأرض» كان تعليق «سارتر» الفرنسي «أخطر ما في الكتاب أنه لا يتحدث إلينا». لا يأبه الغرب بانتقاده بل بإهماله.
لذلك، اتجه الغرب لاستعمال طريقة حصان طروادة لهزيمتنا من الداخل حين فشلوا في هزيمتنا من الخارج، مع تغيير في الأدوات ولاعبي الأدوار. في الوقت الحاضر، مثلاً، أخذت المؤسسات مكان الحصان، وأخذ المهنيون مكان الجنود، ففتحوا أبواب المجتمعات على مصراعيها لدخول الغزاة، وأخذت المصطلحات المهنية مكان السهام التي صوّبوها إلى صدور ورؤوس الناس. أما ادّعاء المساعدة وحسن النية والهدية، فأخذ اسم تنمية، وهي كلمة سبقتها كلمات أخرى شبيهة، كانت المظلة الكبرى لها جميعاً كلمة «تمدين»، والتي حملها الأوروبيون منذ خمسة قرون قضوا خلالها على سكان ثلاث قارات، واستعمروا قارتين أخريين. ربما يكون الاختلاف الرئيسي بين حصان طروادة القديم وأشكاله الجديدة، هو أنه لم يكن بالإمكان استعمال الشكل القديم أكثر من مرة، بينما فبركة كلمات مهنية وإنشاء مؤسسات متجددة هي عملية لا تنتهي. نرى بسهولة قصفنا بالقنابل والصواريخ لكن، كما يظهر، لا نشعر بقصف كلمات تدخل في أعماقنا، وتمزق النسيج المجتمعي وتحول «العالم الداخلي» في كل شخص إلى ركام؛ كلمات تنهال علينا يومياً لا تستمد معانيها من حياة الناس ولا تعكس واقعهم، وليس لها جذور في تاريخهم وحضاراتهم، بل تصنعها مؤسسات ومهنيون يعملون عن وعي أو غير وعي لخدمة قوى مهيمنة؛ كلمات تشكل أداة أساسية للهيمنة، وتحدد الإدراك والبدائل في الخيال وعلى الأرض وفي الواقع. تبدو هذه الكلمات علمية مهنية، وبراقة جذابة، إلا أنها في الواقع تجمع بين احتكار واحتقار: احتكار مسار التقدم ومعنى المعرفة وما له قيمة، واحتقار الإنسان لذاته ولمجتمعه وحضارته.
نحن، كعرب، يمكن أن نسهم في خلق حوار أصيل حول المنطق من خلال بعد موجود في حياتنا بقوة، وينعكس في لغتنا كجزء أساسي منها، ألا وهو المنطق المتضمن في «المثنى». لا يوجد مثنى في غالبية اللغات الأوروبية، ما يؤثر على إدراكهم للغريب. فحسب منطق أرسطو، كل شخص، إما أنا أو ليس أنا، ولا يوجد بديل ثالث. وحسب المنطق الجدلي، يمكن أن تؤدي العلاقة بين شخصين إلى تكوين «كائن» «أرقى» من الاثنين. في المقابل، يختلف منطق المثنى جذرياً عن هذين المنطقين. فالمثنى عبارة عن «مخلوق» ثالث هو العلاقة بين الشخصين، بحيث يبقى كل شخص محتفظاً بكيانه المستقل. أنا أبقى أنا، وأنت تبقى أنت، ولكن يتكون «مخلوق ثالث» هو العلاقة بين أنا وأنت، العلاقة التي تجمعنا معاً. هذه العلاقة بين الشخصين ليست علاقة قانونية أو ذهنية أو اقتصادية، بل علاقة تصبح وكأنها «مخلوق» جديد أشعر بوجوده باستمرار، ولا أستطيع أن أقرر شيئاً دون أخذ ذلك المخلوق بعين الاعتبار. وهذا المخلوق له اعتبار كبير في اللغة العربية، حيث يوجد فيها قسم مخصص لهذا المخلوق، ما ندعوه بالمثنى. والمثنى (الذي يكرهه الأطفال في حصص اللغة بسبب التركيز على نواحٍ آلية صرفية فقط، وإهمال البعد الفكري الاجتماعي المتضمن في روح المثنى ومنطقه) يمكن أن يساهم في خلق حوارات غنية وملهمة ومهمة (غائبة حالياً) حول العالم. باختصار، المثنى هو أحد «الكنوز المستترة» في الحضارة العربية التي يمكن أن يدخل فيها متحدثو العربية في حوارات تجسّد عوالم تختلف عن العالم المهيمن. وبما أن اللغة تحدد إلى حد بعيد إدراك الناس وفهمهم وعلاقاتهم، إذن المثنى ليس قضية ثانوية أو قضية رومانسية عابرة، بل يشكل بعداً جوهرياً في الحكمة، ويضيف بعداً غائباً من مفهوم التعددية.
باختصار شديد، الحوار الأصيل يرتبط بفعلٍ ضمن سياق ووفق حكمة.

فلسطين الأصالة وفلسطين الوهم

القضية الجوهرية لا تكمن في كوننا (أو عدم كوننا) دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، بل ألا يخدعنا الحصول على مثل هذه العضوية وكأنه جوهر وجودنا وخلاصنا. الأمم المتحدة لم تكن في يوم من الأيام مصدر حياة أو كرامة شعب. السؤال المهم ولكنه مغيّب: ما هو إدراكنا لفلسطين؟ هل نحن الآن ملتهون ببناء فلسطين الوهم والتنمية والمواطنين (مثل بقية الشعوب) وننسى فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي؟
أدى الغزو الحضاري بالنسبة لنا كفلسطينيين إلى استبدال فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي بفلسطين الوهم والتنمية والمواطنين. أهم سلاح بأيدينا ضد التنمية والتقدم والتطور بأشكالها ومفاهيمها وممارساتها التخريبية الممزِّقة السائدة هو الأصالة والنظر إلى فلسطين كأفق حضاري. فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي هي الأساس الذي علينا بناء الحاضر والمستقبل عليه، ومسؤوليتنا في تقرير ما يجب أن يكونه هذا الحاضر والمستقبل.
ما ميز الانتفاضة الأولى هو بالضبط كان استعادة الناس مسؤوليتهم في تقرير ما يفعلونه ويرون حاجة له. حَدَثٌ في وسط رام الله يوضّح هذا، حيث كان عدد من الجنود الإسرائيليين يضربون شاباً ضرباً مبرحاً. فجأة ركضت امرأة تحمل طفلها نحو تجمّع الجنود وصاحت بالشاب: «قلت لك ألا تخرج وأنه يمكننا العيش هذا اليوم بدون حليب، لكنك عنيد وتستاهل أن تُضرب، خذ طفلك وابعد عني؛ سئمت الحياة معك». ثم نظرت إلى الجنود وحثتهم على ضربه ليتعلم. حمل الشاب الطفل بين يديه؛ تحير الجنود وتركوه. عندما اختفوا، برزت المرأة وأخذت الطفل وتمنت للشاب شفاء عاجلاً؛ لم تقابله من قبل.
غير أن استبدال فلسطين الأصالة بفلسطين الوهم عنى عملياً استبدال الأهالي بمواطنين، والناس بأجهزة وآلات، والمجتمع بمؤسسات، والحضارة بالاستهلاك. ينطبق هذا على كل الحركات تقريباً، سواء أكانت وطنية أم قومية أم يسارية أم يمينية أم دينية أم اجتماعية أم علمانية أم أكاديمية، إذ يسعى الجميع إلى تسهيل عملية الاستبدال هذه اعتقاداً منهم أنه تقدُّم.
التحدي الرئيسي الذي نواجهه كفلسطينيين هو كيف نوقف انتزاع واستبدال فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي بفلسطين الوهم والتنمية والمواطنين؟ كيف نستعيد فلسطين الأصالة ذات الأفق الحضاري الذي ينطلق من الغنى الموجود فيها وفي جيرانها التاريخيين ذوي الحضارات الغنية. فلسطين تقع في نقطة تلاقي أنسجة جغرافية حضارية دينية متنوعة ومتعددة، ووسط الأمة العربية التي تضم عوالم عدة، ما يجعل التعبير الأصدق من «الهوية الفلسطينية» هو «التعددية الفلسطينية» ذات الأفق الحضاري. إهمال هذا الغنى لا يمكن تفسيره سوى أن حدود إدراكنا هي فلسطين الوهم.
كان العام 1993 فاصلاً بين فلسطين الأصالة وفلسطين الوهم، بين فلسطين الحضارة وفلسطين التنمية، بين فلسطين الأهالي وفلسطين المواطنين. قبل ذلك العام، في فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي، كان التفاعل العالمي مع فلسطين يعتمد على شكلٍ تبادلي وضمن علاقة أفقية، لا فوقية ولا دونية. كان الناس يأتون من كل مكان ليتعرفوا على معاني المقاومة ونمط مختلف في العيش؛ ليتعرفوا علينا كمصدر معرفة وعمل جماعي إبداعي على مستويات عدة. بعد 1993، في فلسطين الوهم والتنمية والمواطنين، تأتي المنظمات الدولية لتساعدنا من موقع استكبار ضمن علاقة تنطوي على احتقار؛ تأتي بشروط مهينة وتغرينا بفتاتاتٍ وتُرْهِبُنا بقَطْعِها عنا إذا لم نفعل ما تأمرنا به. في فلسطين الأصالة كانت الكرامة أهم ما يميزنا؛ في فلسطين الوهم أصبح استجداء حقوق من الظالم ما يميزنا! في فلسطين الأصالة كان الأمل مصدر حيويتنا؛ في فلسطين الوهم أصبحت التوقعات مصدر إحباطنا. في فلسطين الحضارة كانت العلاقة المقدسة هي التي بين الأهالي؛ في فلسطين الوهم العلاقة الرئيسية هي بين مواطنين وأجهزة رسمية. في فلسطين الحضارة لم يكن لنا صوت في الأمم المتحدة، لكن صوت فلسطين كان يدوّي في أرجاء العالم.
الفرق الجوهري بين «أهالٍ» و«مواطنين» هو أن العلاقة الرئيسية في مجتمعات الأهالي هي بعضهم مع بعض ومع مكان وتاريخ وحضارة وطبيعة وذاكرة جمعية، بينما العلاقة الرئيسية في مجتمعات المواطنين هي مع أجهزة من صنع أوروبا. ولاء الأهالي الرئيسي بعضُهم لبعض، بينما ولاء المواطنين هو لكائن مجرد. في مجتمع المواطنين، يختفي «الإنسان الصالح» (الذي يطيع ضميره ويرفض القيام بأي عمل يلحق ضرراً بآخرين أو بالطبيعة مهما كانت المغريات) ويبرز مكانه «المواطن الصالح» الذي يطيع أوامر الدولة والمؤسسات طاعة عمياء. استبدال أهالٍ بمواطنين هو مثال على احتلالٍ إدراكي معرفي. هو ليس استبدال كلمة بأخرى، بل استبدال علاقة حيّة ذات جذور بعلاقة ضحلة رسمية.
يمكن أن يصبح سكان منطقة مواطنين بين ليلة وضحاها (نتيجة إعلان دولة مثلاً) بينما يحتاج تكوّن الأهالي إلى مئات السنين. يمكن منح أو إلغاء المواطنة بقرار، لكن لا يمكن ذلك مع الأهالي. استطاعت إسرائيل -مثلاً- تجريد كثيرين من كوننا مواطنين في أي دولة، لكن لم تستطع إلغاءنا كأهالٍ، ما يفسّر سرّ بقائنا واستمرارنا ضمن ظروف قاسية وممزِّقة إلى أبعد الحدود.
مختصر الحديث: يُعرَّف المواطن في أي دولة برقم «وطني»، علاقته الأساسية بحكومة «وطنية» تسرقه عبر بنك «وطني»، ويحمي الحكومة والبنك جيش «وطني» وقوى أمن «وطنية»، ويقوم بتخدير المواطن منهاجُ تعليمٍ «وطني» حتى لا يشعر بما يحدث – ويُطْلَق على كل هذا تقدُّم.
مصدر الأمل في المجتمعات
في وقت تتبخر فيه أوهام وتوقعات وأحلام وآمال، وتنفضح مشاريع وبرامج تنمية أو تظهر ضحالتها وخداعها؛ في وقت يفقد فيه كثيرون البوصلة ويشعرون بإحباط ويأس، طبيعي أن نسأل: أين موطن الأمل؟ وما هي مصادر القوة في المجتمع؟
حال العالم يتطلب العمل على صعيدين: انتزاع أنفسنا من أوهام تنشرها المؤسسات الحديثة، واستعادة ما سلب أو غُيِّب منا من مقومات شخصية ومجتمعية وحضارية. كثيرون انتقدوا المدنية الغربية، ولعل غاندي كان أشرسهم؛ حقيقة مغيبة إذ إن الحديث عنه يركّز على اللّاعنف ويهمل جوهر فلسفته: حكم الذات وتجنب شرور المدنية الإنكليزية.
إن القناعة بأن «الأهالي هم الأمل والحل» تشمل بُعداً ثالثاً، بُعداً خفياً عن العقل واللغة، إذ يعجزان عن فهمه والتعبير عنه كاملاً، ألا وهو البعد الذي يتمثّل بالحكمة والعمق الحضاري.
إن ما تحتاجه المجتمعات هو يقظة لا تنمية، وحماية لا تطوير: حماية أغلى ما يملكه مجتمع (النسيج بين الأهالي ومع الأرض والحضارة)، ويقظة من الوهم الذي سيطر على المنطقة مدة قرنين بأن هناك مساراً أحادياً عالمياً للتقدم ومصدراً وحيداً للمعرفة، وأننا غير قادرين على العيش بما هو متوفر لدينا. أما اليقظة، فتشمل التحرّر من خرافات حديثة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx