أمير داوود
كاتب فلسطيني مقيم في رام الله
أول هاتف محمول/ موبايل، حصلتُ عليه في حياتي، كان هدية من والدي حين نجحتُ في الثانوية العامة، كان نجاحي كلّه محض مفاجأة، كان الدارج أيامها، أن يسأل الأهالي أبناءهم قبل النتائج: كم تتوقع نتيجتك؟ يقول الطالب مثلًا: أتوقع أن أحصل على علامة 70، فيحصل الطالب على 60. هناك عشر علامات عليها أن تذوب بين ما نتوقعه، وما نحصل عليه. من أول يوم قُلت: أريد أن أنجح فقط، علامة 65 ستكون رائعة، انخفضت التوقعات عند الأهل تمامًا. يوم النتائج، ذهبتُ إلى المدرسة لاستلام نتيجتي، كان يومًا فظيعًا وخانقًا، يُشبه أيام البعث من العدم، تستيقظُ على حلقٍ جاف، وكأنّك ذاهب إلى المشنقة.
نادى المُدرّس على اسمي: أمير، 80 وثلاثة أعشار، صدمة من فرح وبكاء، اتصلتُ على أمي، وكانت مرعوبة، قلتُ لها: نجحت! وبصوت خائف بالكاد أسمعه، سألتني كم النتيجة؟ قلت لها 80 حاف دون الثلاثة أعشار، سمعت كلامًا غير مفهوم كُتم بسرعة، وارتطمت السماعة في الأرض، أغمي على الوالدة من الفرحة والمفاجأة، نادتْ أختي الصغيرة على الجيران، وظلت تُهلوس إلى أن عدتُ إلى البيت، ثم جاء أبي حاملًا هاتفًا حديثًا، وصغيرًا مقارنة بهواتف تلك الأيام؛ هدية النجاح.
قامت الانتفاضة في السنة الأولى من الجامعة، ضاع هاتفي، أو سُرق، لا أعلم. فأرسل الأهل هاتفًا محمولًا ضخمًا بشعًا، ويُشبه قطارًا قديمًا: مشّي حالك فيه! صرتُ أتركهُ في سكن الطلبة وأذهب إلى الجامعة. كنت أخجل أن يراه معي أحد. مرّة، كنتُ عائدًا من الجامعة إلى قلقيلية، في الحافلة، خبّأتُ الهاتف الضخم البشع في الحقيبة، ووضعت الحقيبة في مكانها أعلى الرؤوس، طوال الطريق وأمي تحاول الاتصال، اللعنة، كيف سأُخرج هذا الهاتف اللعين أمام الناس! لن أجيب. ظلّت أمي تحاول الاتصال، والناس تتساءل: «يا عمي مين تلفونو بيرن؟»، وأنا أنظرُ عبر النافذة وكأن الأمر لا يعنيني، كان صوته مثل بوق قادم من الجحيم. الناس تسأل. وأنا أحدق في الشجر والعصافير. وصلت قلقيلية، وبكل القوة الّتي أمتلكها ألقيت بالهاتف إلى السماء، رفرفَ الهاتف محلقًا أمامي مثل عصفور هارب من قفص، ثم هوى أرضًا مثل جثة.
منذ تلك الأيام، ظلّت علاقتي مع الموبايلات أو الهواتف المحمولة علاقة مضطربة، «شيء لا لزوم له»، مرّات أحس أنّ الهاتف المحمول أصغر من أن أكتب عليه، أو أقرأ رسالة أو أكتب منشورًا، تتلبّسني حالة من ضيق الخلق والتنفس إذا قررت أن أفعل شيئًا جديًا عليه، حالة تُشبه مراقبة حفلة صاخبة من ثقب في الحائط. أفكر دائمًا أنّ الهواتف المحمولة، وجِدتْ من أجل أن تستقبل المكالمات، وترسلها طبعًا، غير ذلك محض هراء وتعب قلوب.
مرّات أُفكر لو نعود إلى زمن الهواتف السوداء الكبيرة، بعجلة الأرقام الّتي تدور في منتصفها، وعندما يرنُّ الهاتف مثل دوي قنبلة، تندلع حروب ومعارك حول الشخص الّذي سيقول «ألو» السحرية فيه. أريد أن نعود إلى تلك الأيام، بشرط أن تبقى اللابتوبات، حارسة الأحلام الصغيرة، ومشرعة بوابات الضوء إلى العالم.