عزيزي،
أستطيع أن أسمع صوت العصافير لا النوارس، العصافير الصغيرة التي تغيبها صيحات النوارس والباعة وأقدام المتجولين الكثيرة، حتى إنني أراها. مر وقت طويل جداً منذ أن رأيت عصافير كعصافيرنا، ومنذ أن سمعت زقزقة ليست للنوارس. أقف قليلاً، يمكنني أن أحس بالهواء الخفيف وأنا أعدل قناعي وأفرك يدي بالمطهرات، ولي أن أراقب البوسفور يجري إلى الأبد. أجلس أمام ضفته وأنسى الوقت، أراقب أسراب السمك، والقناديل، والعلب الفارغة، والصيادين. وإن مللت أمشي حرة، هكذا دونما غاية، أو أركب العبارة وأقطع المسافة بين قارتين، منتصرة في كل مرة على كل الحدود والمعابر. لم أخبرك حتى اللحظة أنني هناك لم أفعل شيئاً دون أن أسرف في منحه صبغة فلسطينية، في فلسطين لا مكان للمشي العادي مثلاً في الغيتو الذي نقيم فيه، فكل مشي هو هوياتي النزعة، إن كان مشياً في جبل، أو قطفاً لزيتون، أو حتى ذهاباً وإياباً بين مدينتين. هناك لم أعرف عني سوى أنني فلسطينية وأننا فلسطينيون. يمنحنا الاحتلال إطاراً واحداً لنتحرك به، إطار الضحية، يشرذمها، ويفرض آلافاً من الإجراءات المتعلقة بها، ويمعن في طمسنا، ونمنح أنفسنا سرديتنا الشخصية مغرقة الفلسطينية، وبدونها نشعر بالضياع والاضمحلال.
حينما تركت فلسطين لم تكن أنت جزءاً من الحكاية بعد، أليس غريباً جداً أنني اختزلت ثلاثين عاماً من فلسطين في حقيبتين فقط. بكت أمي وأبي وأختي، ولم تبال القطة بي. وحينما انحدرت السيارة بنا من نابلس إلى أريحا، شعرت بوخز خفيف، كما لو أنني أركب أرجوحة مرتفعة تهبط نحو الأسفل. وقفت صباحاً أمام المعابر، دفعت الضرائب الكثيرة، ختمت جواز سفري، تصريح خروجي، جلست في باص، انتظرت، نزلت، أتجنب دوماً أن أكون أول من يغادر الباص في المناطق الإسرائيلية، أحس أنني لو أخطأت، لو توقفت، لو مشيت أبطأ من اللازم، أسرع من اللازم، لربما انتهى بي الأمر ميتة، أترك الآخرين ليقودوا خطواتي. أتجنب لمس الشرائط البلاستيكية، لم يكن هذا زمن الكورونا بعد، لكنني أشعر بالقرف. أنسل بخفة بينها. يشير الجندي إليَّ بسلاحه، أنظر إلى السلاح، إلى فوهته سوداء وباردة، أتبع التعليمات، أعد، هذه حيلتي السرية دوماً، العد. أعد أنفاسي لأن الشهقات الكثيرة تعني أنني أعتدي على الأكسجين هنا، وهذا الأكسجين ليس لي، أتبع الناس، أقف في وسط المكان حائرة، ثم أحسم ترددي لأن جنديا ينظر إليّ، أقدم أوراقي، جواز سفري المؤقت، وتصريحي، أفكر: هل عليَّ أن أقول صباح الخير؟ يعطيك العافية؟ صباح الخير دون تمني العافية؟ هل أبتسم؟ أقدم أوراقي، هذه أوراقي أقول، أقف، لا أستطيع أن أرى كثيراً ما يحصل خلف الزجاج، تسلمني المجندة الجالسة هناك أوراقي، أتبع الخيط، أختمها مجدداً، أسمع صوت طقات الحديد، ثلاث طقات، وأنجو من الموت. أنا حرة تقريباً، في الطائرة أغمض عيني ولا أنظر ورائي.
لا أحد يعرفني في إسطنبول، لا وجوه مألوفة تنظر إليَّ وأنظر إليها، ولا حتى لغة، يتسرب إلى قلبي شيئاً فشيئاً فقدان من نوع ما. يسألني الأغراب عن هويتي، فتسبقني، أنا لست سوى ابنة للبلد المسروق إذن، تظلمني إسرائيل وأظلمها، ونتبادل الأمكنة، أي منا هو الضحية؟ من سرق من؟ هل هم سرقوا مكاني أم أنني سرقت مكانهم؟ وإلى أي البلدان أنتمي؟ تلك التي أحمل شهادة ميلادها؟ أو التي أحمل جواز سفرها أو الثالثة التي أحمل هويتها؟ كل العيون تراني، ولكنها لا تدرك مني سوى الحكاية؛ الحكاية التي تتعدد وتختلف وتتشعب ولا أملك منها أنا شيئاً.
ليس لي حكاية بطولية، تحميني من الهزيمة، أو تبعدني عن الواقع المهتز، ولا يمكنني الإفلات من فلسطينيتي، وددت حين جئت إلى المدينة التي لا تنتهي، أن أستيقظ، أن أغسل وجهي، أشرب القهوة، أستمع إلى الموسيقى، وأن أقرر أنني لم أعد أريد أن أكون هنا، أن أحزم حقائبي وأغادر إلى أي مكان آخر. لا تحيل فيه فلسطينيتي عليَّ، لكنني العالقة في إسطنبول منذ نصف عام الآن، العاجزة عن الحركة، لا أمام، ولا إلى الوراء، الفلسطينية، حاملة الجواز الأردني المؤقت، إقامتي منتهية، وطلبي لتجديدها مرفوض، أنتظر، مقيمة غير قانونية في إسطنبول، أنتظر فيزا عبوري إلى أوروبا، وأمتلك حلماً واحداً: هو العبور إليك.
وأنا المصابة بالخوف، أستبدله كما أستبدل قمصاني القليلة، نصفه تركته في البيت هناك، وحملت نصفه إلى هنا، وجهي لم يعد لي، أستيقظ في الثالثة صباحاً، أفتح عيناي، أجزع، أغلق الأبواب مرة أخرى، والنوافذ، أراقب أنفاس القطة الخفيفة، وأهدهد نفسي بالحقيقة: هنا، خارج المكان. في التاسعة صباحاً، أحمل حقائبي ودفاتري وألبس وجهاً آخر، أخاف فيه من الوحدة، من الحافلات التي تمتلئ بالماء، من قلبي، من الآخرين حولي، ومن كوني الآخر -وإن كنت أتقنت هذا جيداً جداً- من القطارات تحت الماء، ومن الماء، ومن أن لا أتقن قراءة الخريطة. في الصيف، أستأجر سيارة، أحمل ما تبقى مني، وأجوب الشوارع، لساعات، خارج المدينة، لا يوقفني أحد، حينما تنعطف السيارة، حينما أنتهي في الشارع الخاطئ، حينما أصعد الجبل وألتف وراءه لأعرف شكل الجبل، حينما لا أريد أن أعبر هذا الطريق، حينما أرسم خريطة شخصية لي، لا تمتلئ في السواد، لكنني أفزع من صوت الطائرة العامودية، من سلاح عابر، من سيارة شرطة، من الانعطاف الخاطئ، فكيف أشفى من خوفي لأعبر إليك؟
وأدرك أن ليس ثمة طريق، تعبر مني إليك، أحلم أن أمسك يديك، طول المسافة التي تفصل بين القارتين هنا، وأن نضحك سوية، وأود أن آخذك معي إلى البيت، أتخيل سيناريو ما لحبك، كأن نلتقي قبل خمس سنوات مثلاً، ونقع في الحب، وننتهي إلى الارتباط، ستقول جدتي وجدتك أن «المتعوس التم على خايب الرجا»، فلا أنت بإمكانك أن تزور بيتي، ولا أنا يمكنني ذلك على الأغلب، وحين أخيراً نحضر أطفالاً إلى هذا العالم، سيرثون من أمهم جنسيتها الغريبة، وربما حتى جواز سفرها، ومنك ذاكرتك المثقلة وضحكتك الساخرة وطولك! ولن يعرفوا أبداً ما هو البيت، لا بيتي ولا بيتك. ويكبر السؤال في قلبي: أين هو البيت؟ وكيف آخذك إليه؟
أفرد أمامك كل الهويات التي سمحت لي بالحرية، تلك التي لا تمتلكها، ورسائلي الطويلة التي أشرح فيها إلى الأوروبيين فلسطينيتي المدعاة. لكن الاحتلال لم يفعل ما فعله ملعون الروح تقول لي، وهي المفارقة الوحيدة التي تثير غضبي، هذا ليس اعتذاراً أو تبريراً أو إلغاءً أو حتى مزاودة تاريخية الطابع حول الرصيد الأعلى من المعاناة، كل ما في الأمر أنني نجوت من الموت هناك، لكن الاحتلال لا يريد موتي، بل يبحث عن طريقة لطمسي، لإلغائي، ومسح إمكانياتي الإنسانية البسيطة: كأن آخذك معي إلى البيت.
عزيزي، أعلم أنك ستضحك الآن على شكواي الطفولية من العالم، وتفرد أمامي كل الهويات التي تمتلكها، جواز سفر منتهي الصلاحية، هوية ممزقة، إقامة سارية المفعول، وطلبك للجنسية التركية، وخريطة للهجرة، خريطة مفصلة جداً، ولا شرعية. تبدو فلسطينيتي الثقيلة، حمامة أخرجها الساحر من كمه، وتركها لترفرف في مسرح هذا العالم الكبير. فأخجل. أخجل من أن أدعوك إلى البيت. أستكين إلى ذاكرتي الآن، لأنها هويتي الوحيدة، كما تستكين إلى ذاكرتك، أتمرد على كل ما كتبته أعلاه، وأمارس تمركز الفلسطيني حول ذاته، التمركز الذي يسمح لي أن أخبرك بأن ما تقوله هو امتداد طويل لي، وأن كل اللحظات ليست سوى تكرارات زمنية بالغة الوحشية لمأساتي الشخصية، وأنني لا أهرب، فهذه الفلسطينية تلتصق بي، مهما نفتها كل الأوراق التي أملك، ووجودي المؤقت الحالي في هذا العالم، إنها وجهي الذي أرى فيه العالم.
أقف في حلمي/ك، في وسط الشارع، يبدو أحياناً مألوفاً، وأحياناً أخرى لا أعرفه، فوهة البندقية الباردة ناعمة جداً، عاجزة عن التنفس كأنني أغرق، في الشارع، نقف متقابلين، أنا وأنت، نعبر هذا العالم. أمد يدي إليك. لكننا لسنا سوى عابرين إلى غرف بعيدة مستحيلة.