جلسة ذكريات كانت قبل عام تقريباً مع الفنان الكبير الراحل بشير السنوار، كان وقتها متعباً لكن ذاكرته لم تغفل عمّا صاغت يداه من مسيرة فنية زاخرة، حينها سألته عن لوحة بعينها، رغم أنني كنت أجلس بجواره في مرسم الهلال الأحمر وهو يبدع ويرسم قبل عدة سنوات ولم يخطر في بالي أن أغوص في تفاصيلها أكثر، ولم أدرك وقتها سوى أنني نضجت على عشق الأسلوب في تلك اللوحة، بعيداً عن اسمها المملوء بعطر الشهداء (القربان). كانت أولى كلماته عنها بأن وصفها بـ “النبوءة”، تعجبت من لقبها، لكنه قال لي حينها: “لقد رسمتها عام 1984، أي قبل ثلاثة أعوام من قيام انتفاضة الحجر”، أدركت حينها أنها نبوءة فنان يعيش لأجل وطنه ويعيد رسم ثورة شعب لا سبيل إلا لأن تكون حقيقة وواقعاً. اللوحة في محتواها البصري فريدة، وفي رمزيتها ومضمونها قوة لا يستغرب أن تبدعها ريشة فنان كبشير السنوار. تحتوي اللوحة على صورة ملثم بالكوفية يحمل رأسه بين يديه، كأنه يقدمه قرباناً لما يضمه صدره، حيث الوطن المختصر في صورة قبة الصخرة التي حلت مكان القلب مكاناً ووجداناً. ليس غريباً أن تشعر للوهلة الأولى بأنك تنتمي لهذا الملثم كما لو أنه أنت، أو أنك أحد ضلوعه، وليس مستغرباً أن تشعر بحالة صدمة وأنت ترى انفصال الرأس عن هذا الجسد، وما يحتويه المشهد من رغبة في التضحية لا مثيل لها، بسريالية عالية وجرعة مركزة من المشاعر والواقع والخيال. تبدو البنية الجسدية نحيفة لكنها قوية، واليدان تحملان الرأس بعد اقتلاعه من الجسد لكن دون دماء ونزيف، ثم تلك النظرة الشاردة المختلطة بالتحدي والحزن والقوة والانتظار، فتشعر أنه لا ينظر تجاهك، وتتمنى أن تعرف ماذا يرى، ولا تستغرب حين تعلم أنك يمكن أن ترى المشهد الذي تناظره عيون الملثم عندما تعرف أن تلك اللوحة لم تكن يتيمة، لأنها واحدة من الثلاثية التي رسمها الفنان، وكانت تحمل نفس النبوءة وتكمل المشهد. “في الميدان وحدك” هو اسم لوحة ثانية رسمت من وهج انتفاضة الحجارة، حيث تصور حصاناً عربياً يقف شامخاً على تلة تطل من بعيد على مدينة القدس، وعلى رقبته الكوفية السمراء بمنطق وجودها في كل ما يمثل فلسطين، ثم تستشعر تلك الروح المتحدية للشعب الفلسطيني متمثلاً في هذا الحصان. اللوحة الثالثة “في انتظارهم” تصور ثلاثة أطفال يجمعون الحجارة تمهيداً لرميها على المحتل، هذا السلاح البسيط كان ذخيرة الانتفاضة، ربما جمع هؤلاء الأطفال صخور أرضهم لتجهيزها لشبان الانتفاضة، وربما، على صغر سنهم، في نيتهم رميها بأنفسهم، فقد امتلكوا من الشجاعة ما لم تجبل في غيرهم منذ الولادة، بملابسهم البسيطة وبيوت المخيم القديمة في خلفية المشهد، وفي ارتداء أحدهم للكوفية على كتفيه تمثيل لحالة انتظار يعيشها الوطن نحو التحرير، وفي عيونهم بريق التحدي كما الحصان والملثم. قد تأخذك الذاكرة الآن، إن كنت من جيل عايش تلك الفترة، نحو المشهد بكل تفاصيله، أو قد تكون تلك اللوحات سجلاً تاريخياً كانت بدايته القربان ولم تنته حتى بعد أكثر من ثلاثة عقود ولدت فيها تلك اللوحات، مروراً بمسيرة حضورها في معارض خارجية في تونس وعدة دول في جولة فنية لصالح منظمة التحرير، ولم تعد مرة أخرى للوطن ولا لعيون الفنان السنوار الذي دفعه الشوق لأن يعيد رسم لوحتي القربان وفي الميدان وحدك عام 2003 في أوج الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى). واليوم، بعد رحيل الفنان بشير السنوار عنا، نستذكر ما ترك خلفة من إرث فني كبير وزاخر بصور الوطن المختلفة، من النكبة التي عايشها في طفولته إلى أحداث الهزائم والنكسات والمجازر والانتفاضات والحروب، وجميعها جعل منها سجلاً بصرياً لفلسطين يحمل توقيع (سنوار).
- نُشِر هذا المقال في العدد [ التاسع والعاشر ] من المجلة