زنوبيا: سرد المأساة كمشهدٍ حي

يأخذُني كتابُ زنوبيا الصادرُ عن مؤسسةِ تامر للتعليمِ المجتمعي للدنمركيين دور وهورنامان، والمُترجم إلى العربيّةِ بواسطةِ دنى غالي عام 2018، إلى القول أنّه مساحةٌ حيويةٌ لِلتجريب، هذه المساحة الحرّة، والّتي تسمحُ بإعطاءِ فرصةً لِتقديمِ ما يبدو مُؤلمًا وحزينًا للطفلِ، أو ما هو حزينٌ بِالفعلِ، وتتبع ما سيحدثُ من حراكٍ وتفاعلٍ، دونَ تصوراتٍ ذهنيّةٍ مسبقةٍ، قد تحجبُ الطفلَ عن مضمونِ الكتاب وتحدُّ من قدراتِ التفاعلِ معه.

لكن بالعودة إلى الموضوع أصلًا، موضوع الكتابِ المعجونُ بِالألمِ والمأساة يقفزُ السؤالُ -القديم الحديث- مُجددًا وهو إلى أيّ مدى يُمكننا خوضَ مغامرةِ طرحِ المَوضوعِ، خاصةً بِالنظرِ إلى حجمِ الحساسيّة الّتي تحيطُ بأدبِ الطفل، الّتي تجعلُ من حركةِ صناعةِ كتابِ الطفل، حركةً يحكمها الحذر وتتقدمها جملةٌ كبيرةٌ من التصوراتِ والنظرياتِ والتوقعاتِ المُسبقة، وفي ذاتِ الوقت، نجدُ أنّ الحياةَ هي التأرجحُ المُستمر بينَ مجموعةِ المتناقضاتِ الّتي يعيشُها الجميع والطفل أيضًا.

ويُمكنني القول، أنّ مساحاتِ تجريبٍ جديدةٍ، وأكثر انحيازٍ لما يفرضهُ الواقع من معطياتٍ، تكونُ أكثرَ قسوةٍ من محاولةِ القفزِ عنها، أو الحدّ من حدتِها، أو نقلها إلى أشكالٍ أكثر لطفًا. لذا فإنّ كتابِ زنوبيا، هو مغامرةِ التجريب بكلِ ما يتضمنهُ ذلك من معاني، وبكلِّ ما يسيرُ ضمن هذه المحاولة من قفزات.

 إذا صحَ التعبيرُ، فإنّ الكتابَ هو الانحيازُ الحقيقيُّ والموازي تمامًا، لمرارةِ المأساةِ كما يَعيشُها المُجتمعُ السوريُّ، أو كما عاشها تمامًا، لكن كيفَ تمّ ذلك بأي طريقةٍ، وفي أيِ سياقٍ؟ هذا هو ما يُلغّز هذا الكتاب تحديدًا، ويجعلهُ كتابًا مُستندًا إلى حالةٍ إبداعيّةٍ عاليةٍ، لكنّها حالةٌ يحكمها الألمُ، وتَعجنها المأساةُ بصورةٍ مباشرةٍ، وخادشةٍ ربمّا.

المُتصفحُ لكتابِ زنوبيا، يتصفحُ محتوى بصري كثيف، يفيضُ بِالبهوتِ والخوفِ، فالكتابُ الّذي يقومُ -بصورةٍ أساسيّةٍ- في بناءهِ على فنِ الكوميكس، يعرضُ بِواسطةِ جملة مترابطة من الرسوماتِ، وصفًا مشهديًا عاليًا، يوازي تمامًا ما يُمكنُ للُّغةِ قَولهُ، و في بعضِ الأحيانِ، يَتجاوزهُ إلى آفاقٍ مفتوحةٍ، على خليطٍ مُزدحمٍ جدًا، من المشاعرِ والمواقفِ والتأويلاتِ والأحداث، و هُنا يطرحُ المستوى الفنيّ نفسهُ، ندًا للُّغةِ، مُنافسًا لها ، لكن ثمّةَ إحكامٌ دقيقٌ، في نسجِ خطِ لغوي مُحكم ومُختزل، إلى جوارِ المَشهد، قدّم لنا إطارًا متوافقًا و مُتجاذبًا معًا؛ متوافقًا، كما لو أنّ حيزَ اللُّغةِ القليل، هو فقط ما يُمكنُ قولهُ في مساحةِ المشهديّة ِالعاليّةِ والكثيفة، ومُتجاذبًا كما لو أنّ المشهديّةَ العاليةَ، تُخضعُ اللُّغةَ هذه المرّة، إلى طاقتِها ورؤيتِها وبصيرتِها العالية، في كلّ صفحاتِ الكتاب، و لذا يجدرُ الإشارةُ، إلى أنّ الكتابَ هو كتابُ الرؤيةِ والمشاهدةِ، الأكثر فصاحةً هذه المرّة ربمّا.

هذا ما جعلنِي في الكثيرِ من الأحيان،ِ أنظرُ إلى الكتابِ من منظورِ رؤيةِ فيلم السينما المُختصرِ والمُوجزِ، والذاهبِ إلى مضامينِهِ مُباشرةً، بأقصرِ الطرقِ و أكثرها إيلامًا، ما يُعزّزُ هذه الرؤية، هي التقنيةُ الفنيّةُ الّتي اعتمدت عملية صناعة الكتاب عليها، و هي تقنيةُ الاسترجاع الفني -أو ما يُصطلح على تسميته بالانجليزية؛ فلاش باك- وهي بِالأساس تقنية مُستخدمة في صناعةِ السينماِ أكثر، وتمّ استخدامِها ضمنَ تقنياتِ السردِ والروايةِ، والّتي تقومُ بصورةٍ مباشرةٍ على إحداثِ قطعٍ في سيرورةِ الأحداثِ، قطع في الزمانِ، في التسلسلِ المكاني والزماني؛ لاسترجاع مشهد أو مشاهد ماضية، بِهدف استحضارِ مواقفٍ جديدة، والتعليقِ عليها، وهذا ما هو مُستخدم في زنوبيا، في طريقة عمل الكتابِ و صناعته.

هنا المكان كبير وخالٍ

تبدأُ القصةُ من نهايتِها، مشهدُ المكانِ الكبيرِ الخالي، الأزرقُ المُتمادي في زرقةٍ مُتسعةٍ ولانهائيّة وباهتة، حيثُ لا أحداثَ، لا مواقفَ مؤلمة، لا مفاجئات، ولا مخاوف، بسبب النجاة الأكثر إفجاعًا من الفاجعةِ ذاتها، وهي الغوص في عمق المحيط، بعد رحلةِ هجرةٍ غيرَ شرعيّة، ٍبسبب ِالحربِ والدمارِ المُنتشرِ والكبير، ثم يبدأُ الربطُ بواسطةِ تقنيةِ الاسترجاعِ الفنيِّ، بِقطعِ الزمانِ والمكانِ، والانتقالِ المُفاجئِ إلى مرحلةِ ما قبل الحرب، ما قبل المأساة.

وجدتك

لعبة الطميمة

كانت هذه لعبتنا

هذا القفزُ المستمرُ، بينَ تراتبيةِ الزمانِ والمكان، هو ما أوغلَ الكتابَ في قتامةٍ عاليةٍ، وجعلَ حجمَ المأساةِ يتّسعُ إلى مساحاتٍ عاليةٍ ومُلتهبة، ربطُ الحدثِ الرحبِ والسعيد، بما يشبههُ في مأساةِ الحربِ والفقد، أو بِالرغبةِ الجامحةِ والكبيرةِ، نحوَ استلهامِ مناطق الضوء، وسطَ هذا العتمة المُخيمة؛ المكان الّذي لا يراها فيهِ أحدٌ في لعبةِ الطميمةِ، والمكان الّذي لا يمكنُ أن يراها فيه أحد في قاع المحيط.

أنا هنا يا أمي في الماء

الدولمة اللذيذة، والّتي ينقصها القليلُ من الملحِ، والبحرُ المالحِ أيضًا، ثم القفز نحوَ سراديبِ الماضي، من خلالِ الاستلهامِ التاريخيِّ في قصةِ الملكةِ زنوبيا؛ الملكة السوريّة القديمة، ملكة تدمر الجميلة، القوية، المحاربة، وزنوبيا الفتاة السورية الصغيرة؛ اللاجئة الضعيفة، المحاطة بالخوف والحزنِ والألمِ والخرابِ، والمُجلّلة في ذات الوقت بالأماني والدعوات والتطلعات،  نحو غد أجمل.

إلّا أنّها تهمسُ: هيّا اعثري عليّ، ثم تكتشف أنّها كانت تهمسُ بداخلها، حيث النهاية غير مفاجئة، وأكثر التصاقًا بواقعية المأساة القاتمة، والموغلة في البشاعة والألم.. الحقيقة، أنّ الكتاب وثيقة مؤلمة، تؤرّخ لواقعٍ مرير، من خلال طريقة إبداعية، مُرتكزة على التراجيديا والألم.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx