”وارث الشواهد” حتّى يكون هناك شاهدًا لحياتنا وموتنا

قفزت رواية “وارث الشواهد” إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر لعام ٢٠١٨. الرواية التي عالجت الأحداث التاريخية بلغة دينية فلسفية، وبسردٍ غير كلاسيكي، يتغيّر فيه رواة الحدث الواحد، ويتحرّك بسرده بين الماضي والمستقبل.
مجلة ٢٨ التقت في 29 مارس 2018 بصاحبها د. وليد الشرفا، فكان هذا الحوار.

اضاءة على صفحات الرواية

“وارث الشواهد”، هي رواية الفلسطيني الوحيد (اسمًا وصِفةً) –بطل وليد الشرفا– الذى عانى اليُتم مُبكرًا، الذي قضى حياته بين ذكرى بيتين في نابلس وعين حوض، وواقع القبرين لشخصٍ واحد؛ أبوه -أستاذ التاريخ- الذي قتله صدفةً، وبلا داعٍ، مجندٌ اسرائيلي لا يعرف اسم نابلس حتّى، فدُفن للمرّة الأولى شهيدًا مجهولًا، ومن ثمّ في قبرٍ جانب منزله/بين عائلته.
“كيف لا يكون سعيدًا من لا يكون يتيمًا؟!”
هي رواية الفلسطيني، وتيهه الذي يجعله معلقًا في خضمِ صراعه الزمكاني مع المحتل الإسرائيلي، الذي أخذ الأرض وغيّر شواهد البيوت، بحجّةِ وعدٍ من ربّه وذكرى قبل ثلاثة آلاف عام.
“ذات مرّة رفعت يدي لأصفع الوحيد، كان قاسيًا جدًا في هدايتي. قال ذات مرّة ليفهمني بأنه هو ووطنه فلسطين دفعا ثمن هذه الفكرة. لم أفهم بشكل واضح. قال: “لو طلبت منكِ أن تهبي جسدكِ معزّةً لصديق”، قبل أن يكمل رفعت يدي لأصفعه، مسك يدي وحدّق بي قائلًا: “هكذا فعل بنا رب اليهود” نحن -الفلسطينيين- هل هناك رب يفعل ذلك؟!”
سقط الوحيد من رحم أمه، في نابلس، لكنّ جذوره هناك في عين حوض-حيفا، التي غيّر المحتل شاهدتها لتصبح «عين هود»، والتي هي مسكنٌ للفنانين الغرباء؛ كي يتعلموا ويستلهموا الفنَّ من موسيقا الريح، ونحت التراب.
«وكيف للعالم أن ينتصر لذكريات منقطعة منذ ثلاثة آلاف عام، ويتجاوز ذكريات جسدها الآن ما زال ساخنًا؟ وكيف يطلبون من الوحيد أن يدفن قبور أجداده لتبحثوا أنتم عن قبور أجدادكم؟ وما هو الأهم أيها العالم، اللوحة الأزلية أم الفنان الطارئ؟»
اشتدّ المرضُ على جد الوحيد -سليمان الصالح- ولأن الحالة تستدعي ذلك، اقترح عليه صديقه الطبيب بشارة، حامل الهوية الزرقاء، أن يطلب له تصريحًا ليتم علاجه في المشفى الذي يعمل به بحيفا، وبالفعل تمّ ذلك، فيعود سليمان الصالح لمدينته/لأمه مريضًا لا يراها، لكنه تنفّس هواها ومن فرطِ الحنين توقف قلبه، لئلا يزفرها؛ كي تظلّ حيفا داخله، هو الذي دفعَ عمره وأحلامه، لأن يعود مرّة أخرى، للأبد.
ولأنها فرصة لا تتكرر، يُصرُ الوحيد على صديقه بشارة، أن يذهب به إلى بيت جدّه -الذي صار يسكنه فنان بدين لا يعرف تاريخه- فلا يجد شاهد البيت، لكن في البار الذي عرجوا إليه، يجد الشاهد حجرًا مثبتًا في الحمام، جوار المقعد المخصص للتغوّط، فيثور جنونه ويحاول خلعه، إلا أن الشبّاك الذي استخدمه سيخلع حياة شرطي داهمه.
“فالشاهد ليس حجرًا، إنه روح تصلّبت.”
ما سبق ليس محاولةً لتلخيص الرواية، فذلك غير ممكن بطبيعة الحال، ولا مطلوب، “لأن الرواية مجموعة حالات، متناسخة متناسلة متطورة، ولا يجب أن تُلخَص الحكاية والأبطال والشخصيات” كما يقول وليد الشرفا. لكن الأمر أشبه بإضاءة سريعة على صفحات الرواية، حتّى يتسنى لقارئ الحوار -الذي لم يقرأ أدب وليد الشرفا- ألّا يكون غريبًا عن عوالمه.

الحوار

  • على البدايات ألّا تضيع أيضًا. بدأتَ مغامرتك الأدبية عندما كنت في الثامنة عشر، حين أصدرت روايتك الأولى “محكمة الشعب” عام ١٩٩١م، و”اعترافات غائب” عام ١٩٩٤م، وبعد انقطاع تسعة عشر عامًا، رجعت بـ”القادم من القيامة” عام ٢٠١٣م، وبعدها بأربع سنوات، أطلّيتَ علينا بنصّك الروائي “وارث الشواهد”… حدثنا عن بداياتك، فترة الانقطاع، ما الذي تغيّر في الأسلوب ومادة الكتابة خلال هذه الفترات؟
    البداية كانت مبكرة في العام 1990، الانقطاع كان نتيجة لحالةٍ من اليأس، الناجم عن أزمة تعامل المؤسسة الفلسطينية مع الابداع، وعن حالة الخيبة الناجمة عن الافراط في التفاؤل بدور الأدب، في الانقطاع اتجهت للجهد الأكاديمي، أنهيت الماجستير والدكتوراه في الأدب والنقد وتحليل الخطاب في أعمال إدوارد سعيد. في الغربة التي كانت قصيرة نسبيًا، عادت فكرة الابداع تسيطر علي من جديد، هذه المرة كانت الكتابة حلمًا بالتوازن، ومحاولة بناء وطن أو الالتحام به، بكافة تضاريسه الطبيعية والفكرية والإنسانية، كان تعريفه قد اتخذ شكلًا اكثر مأساوية، شعرت بذلك الحنين الذي يجعل الموت في البلاد جميلًا، لذلك، فإن الحياة، هي البحث عن معنى وليس عن حاجات، لذلك كانت الكتابة عودة تخييلية بانتظار التحقق.
  • من أين جاءت فكرة “وارث الشواهد”، وما الذي أردت قوله من خلال هذه الرواية؟
    بدأت الفكرة من حيث انتهت فكرة «القادم من القيامة»، عند التحول من فكرة الرصد التخييلي لمرحلة تاريخية، ورفض تخييل التمرحل إلى المحاكمة الأزلية للتاريخ الفلسطيني والإنساني، الذي خلق المأساة الفلسطينية، في لعبة الروايات وعمليات التلقيح بالقتل والتغييب والسادية، لذلك، أعيد رصد الحكايات الكبرى باستعارات دقيقة هامشية في حيزها، لكنها رصد لذلك التحول النوعي في المأساة التي توراثتها الأجيال الفلسطينية بعد التهجير وبعد النكسة، وما عقب ذلك من ثنائيات جديدة فلسطينيًا؛ فلسطين 48، و67، واللاجئين، وغيرها من ثنائيات.
    كانت الشواهد حالة التحام تراجيدية بين الحياة والموت، بين الروايات والأساطير، وبين الأصل والطارئ، من هنا جاءت الفكرة، بإحياء الشواهد كعلاقة قادرة على تفجير فكرة التعايش، واستحالة النسيان كذلك.
    ما أردت قوله: أن الروايات التاريخية الدينية تنتصر مؤقتًا، ولا يمكن أن يتساوى الحضور والغياب في الحالة الفلسطينية الصهيونية، وأن فلسطين لا يمكن أن تتحول إلى عرق تخييلي، ولا إلى جغرافيا طائفية.
    إنها رفض لأسطرة التاريخ، وإجهاض لحمل الروايات العقلي الكاذب، ودفاع عن الله.
  • بات الفلسطيني يعيش مآسيه ضحيةً للدين والتاريخ. كيف أحال النقّاد والقرّاء في آن، وتفاعلوا وأوَّلوا الرواية من ناحية الموضوع الديني؟
    كان التلقي الديني للرواية مرتبكًا منذ البداية، وكان السؤال البريء الأولي: هل الرواية صوفية أم إلحادية؟ لكن مع القراءات المتكررة، كشف السرد عن رسالة أعمق، هي رفض الألوهيات العرقية العنصرية، ونسف لفكرة أرضنة الله، وقدّمَ ناقدان مميزان عن ذلك، هما الناقد الشاعر عبد الرحيم الشيخ، والناقد الباحث جمال أبو الرب، كان مفاد القراءة التي تخصصت بنقد روايات الألوهية في الرواية، والتي كتبها أبو الرب، تتمحور حول تشبع الأصوليات بروح الألوهية، تمهيدًا للعنف والدموية، كان ذلك في الحالة الصهيونية، التوراتية.
    في الرواية انتقام تاريخي من سطوة التاريخ، وانتقام ايماني من فكرة العنصرية.
  • ما زالت التراجيديا الفلسطينية تؤرق ذاكرتك وقلمك، فتدور أعمالك الروائية حولها، وخيبة الفلسطيني ما بعد أوسلو، ومأساة اللجوء، والنكبة، وتيه السياسة الفلسطينية. فهل تختار موضوعات أعمالك، أم هي من تناديك لكتابتها؟ أم هي مسألة الهوية وضياعها التي تشغل المثقف الفلسطيني؟
    تمامًا، ما كتبته يتمحور حول تراجيديا العودة الفلسطينية، التي تعني جدلًا للاقتلاع والتهجير والقتل والموت، وفكرة الإلغاء الفلسطيني المادي والثقافي، فالعودة إعادة إحياء لتراجيديا التهجير، حيث النظرة الأخيرة للبيت الحميمي، فيما يشبه النظرة الأخيرة قبل الموت، كانت العودة احتمالًا للتعويض، لكنها تفجر مأساة أعمق، لذلك كانت «القادم من القيامة»، السيرة الأولى من تراجيديا العودة، في حين كانت «وارث الشواهد» السيرة الثانية من هذه التراجيديا، حيث العودة المقترنة بالموت وفتح الجراح.. إذ لا شفاء!
    ليس اختيارًا للمواضيع، إنما حالة قسرية ومؤلمة، تقود لتخييلات عجائبية مرعبة، في الأحلام والكوابيس وصور الخيبات. من الأداء المحلي، ومن الظرف التاريخي. بالتأكيد الهوية هي جوع الغياب الفلسطيني الممتلئ بنهم الحضور الصهيوني، داخل جغرافيا واحدة هي فلسطين، لا شيء خارج الهوية بالتأكيد.-
  • هل على الكاتب أن يكتب أدبًا محليًا، بمعنى آخر عن جغرافيته وأحداثها، أم أن يكتب عن الإنسان وسؤالاته في أي مكان في العالم ليغدو أدبًا عالميًا؟ أم أن المحلية تأتِ بالعالمية؟
    سؤال مربك، كان التيه الآدمي الأول محليًا بين الأرض والسماء، ومن ثم، تم تناسخ القتل الأول في جغرافيات جديدة، فتحت باب وجودها بالموت، فكانت الأسطورة وراثة إنسانية مشتركة، لذلك، لا فصل بين المحلي والعالمي، ولا يمكن لفلسطيني عرفَ فلسطين، أن يرى العالم خارج عينيها، فلسطين تناص مزمن من خيبة الإنسان الأولى، والدرجة الصفر للحقيقة، هذا ما تمّ التأكيد عليه في «وارث الشواهد» ، التي حاكمت الأزل والأبد بقانون الفلسطيني، فلسطين ذروة الصدمة في المأساة، فهي الأقدر على منح العالم تعريفها.
  • قفزت “وارث الشواهد” بخفتِها حجمًا ودهشتها لغةً وحكايةً، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر لعام ٢٠١٨. ما تأثير الجوائز الأدبية على إنتاج الكاتب، وهل الجوائز تعني بالضرورة أن العمل الذي نالها جيّد؟
    بالتأكيد، أنا عمدت إلى أن تكون وارث الشواهد بهذا الحجم، فقد نَشرتُ نصفَ ما كتبت، أريدها نصًا مكثفًا مورطًا. الجوائز تساهم في نشر العمل، وزيادة مقروئيته، مع أنني لم أتقدم في حياتي لجائزة، بل الذي رشحني هو دار النشر، بالتأكيد لا يعني وصول الجائزة أن العمل مطلق الجودة، كما لا يعني ذلك، أن العكس صحيح. لكن أعتقد أن الأعمال الكبيرة تفرض نفسها في النهاية.
  • شهدت السنوات الأخيرة تواجد ملحوظ للأدب الفلسطيني، ففي القائمة الطويلة لجائزة البوكر هذا العام ٤ روايات فلسطينية، منها اثنتان وصلت القصيرة، ولا تكاد تخلو قائمة لهذه الجائزة من رواية فلسطينية، وكذلك للأدب الفلسطيني حضور في مجال القصّة والشعر على المستوى العربي. فكيف ترى المشهد الأدبي في فلسطين، وهل هو يقدم ما هو مطلوب منه، وما هي الإشكاليات التي يواجهها؟
    طبعًا هناك حضور أدبي فلسطيني مهم، لزملاء أعتز بتجربتهم وابداعهم.. حضور الأدب الفلسطيني متسارع ومهم، والمشهد الفلسطيني مرتبك، وهناك حالة من الخلل بين المؤسسة والمبدع، وهي خسارة كبرى، بعد أن كان الالتحام جدليًا بين المؤسسة والمبدع في زمن الثورة. المشهد الفردي يقدم نعم، المؤسسة مفككة وتعيش حالة من الهلامية. هذه أبرز الإشكالات التي يعاني منها.
  • هل ثمّة أسلوب معين يسلكه وليد الشرفا في كتابة الرواية؟
    الرواية عمل متعب ومرهق، بحاجة لتراكم ونحت يومي للحكاية والاستعارة، وبناء اللحظات الدرامية، وعمليات التخييل فيها أعقد من التخييل الشعري، مسلكي هو تقمص الحالات لا تناصها، وأعتقد أن الرواية عمل لا يتأتى بالتحصيل، بل بالتجربة وانتاج المأساة والملهاة، بالتناوب ربما.
  • لماذا تكتب، وما هي مهمة الأدب؟
    أكتبُ لأرسم لوحة الصلب الفلسطيني، ومهمة الأدب إقامة الشواهد على الموت والحياة، ولأشهد كم أنا ضئيل وهامشي، أمام جلالة الكارثة. الأدب صرخة وراثة المجد، لمن رحلوا ولم ينتصروا، وهل هناك أولى من فلسطين بذلك!

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx